أثناء التصفح والقراءة في الفضاء الرقمي، يُلاحظ المرء ظاهرة قد لا تكون متفشية، لكنها موجودة وتلفت النظر.
ففي وسائل التواصل الاجتماعي خصوصاً، تُبنى "شخصيات ورقية" ببراعة لتكون أقوى وأكثر بريقاً من حقيقتها في الواقع.
يُزيّن البعض صورته بعبارات رنانة، بينما يُلبس آخرون أنفسهم ألقاباً لا يملكونها: "الخبير""الدكتور"،"الأستاذ"، "المستشار"... ألقاب تتراكم كالأوسمة على صدورٍ فارغة.
وهذا يذكرني بالمقولة المنسوبة للفيلسوف فريدريش نيتشه: "الوهم يبدأ في اللحظة التي نُصدّق فيها الكذبة... ونعيشها كأنها حقيقة."
لكن، ما هو الدافع الحقيقي وراء هذا السلوك؟
خلال بحثي عن إجابة، وباستخدام أدوات البحث والذكاء الاصطناعي، وجدت أن التفسير ليس واحداً. الأمر ليس مجرد "ثقة بالنفس" أو "نصب اجتماعي"، بل هو سلوك يغوص أعمق في علم النفس.
نظرة من منظور علم النفس
لا يتوقف الأمر عند حدود الادعاء البسيط، بل له جذور نفسية تختلف في شدّتها:
1. تزييف الصورة الذاتية (False Self-Presentation):
أكدت دراسة نُشرت في Frontiers in Psychology (2020) أن تزييف الصورة الذاتية – كادّعاء النجاح أو المكانة – يرتبط ارتباطاً مباشراً بانخفاض الثقة بالنفس والحاجة المُلحّة للتقدير الاجتماعي. إنه محاولة لملء فراغ داخلي بالاستحسان الخارجي.
2. الكذب المرضي (Pathological Lying):
في حالات أكثر تعقياً، تشير دراسة بعنوان «Pathological Lying: Theoretical and Empirical Support» (2022) إلى أن الكذب المرضي هو سلوك متكرر ومستمر، لا يخدم بالضرورة غاية واضحة، وغالباً ما يرتبط باضطراباتٍ نفسيةٍ أو حاجةٍ مفرطةٍ للاهتمام.
3. اضطراب الوهم (Delusional Disorder):
أما في الحالات القصوى، حين يصدق الإنسان ما اخترعه عن نفسه تماماً رغم وضوح الحقيقة للجميع، فقد نكون أمام ما يُعرف بـ اضطراب الوهم من النوع العظمي (Grandiose Type). هنا، يعيش الفرد قناعة راسخة بعظمةٍ أو مكانةٍ لا وجود لها، ويصبح الوهم هو الواقع بالنسبة له.
الخطر الأكبر ليس الكذب على الآخرين
ادّعاء الألقاب ليس دائماً نصباً متعمداً، بل قد يكون في بداياته محاولة يائسة لإخفاء ضعفٍ أو سدّ فراغٍ داخلي.
الخطر الحقيقي يبدأ حين يتحول "الادّعاء" إلى "قناعة"، ويتحول "الوهم" إلى "هوية".
عند هذه النقطة، لا يعود الكذب موجهاً للآخرين فحسب، بل يصبح كذباً على الذات. وهذا هو أعمق أشكال خداع النفس.
تذكّر دائماً:
الثقة الحقيقية لا تحتاج إلى لقبٍ لتثبت وجودها، بل هي تنبع من الداخل.
