نسمات أيلول: عودة خجولة إلى دفء الدراما السورية

 


مع كل خريف، تهب نسمة حنين إلى زمنٍ كانت فيه الدراما السورية تلامس القلب قبل أن تطارد الضجيج. هذا هو الشعور الذي رافقني وأنا أتابع مسلسل "نسمات أيلول"، عملٌ يبدو في ظاهره بسيطًا، لكنه يوقظ في الذاكرة دفء أعمالٍ خالدة مثل "تجارب عائلية" و"حارة نسيها الزمن"، حيث كانت البسمة تُصنع بعفوية وخفة ظل، بعيدًا عن صخب الواقع وتعقيداته.

يجمع العمل ببراعة بين عبثية الموقف الكوميدي ودفء التفاصيل الريفية، ليخلق روحًا تذكرنا بمسلسلات أيقونية مثل "ضيعة ضايعة" و"الخربة". ورغم أنني لم أشاهد "ضيعة ضايعة"، إلا أن ما قرأته في النقد عنه، بالإضافة إلى مشاهدتي لمسلسل "الخربة" بطولة دريد لحام، جعلني ألاحظ أن "نسمات أيلول" يحمل روحًا قريبة من العملين. فمنذ مشاهده الأولى، يتضح أن المسلسل يسير على حافة التهكم، مازجًا بين الجد والهزل، والدراما والكوميديا السوداء.

هذا المسلسل السوري، الذي تم تصويره في مدينة اللاذقية، هو من نوع الدراما الممزوجة بكوميديا عائلية لطيفة، وهو مكون من 30 حلقة، من كتابة علي معين صالح وإخراج رشا شربتجي، وقد بدأ عرضه لأول مرة في الأول من مارس 2025. وتأتي هذه التجربة بمثابة عودة مختلفة للكاتب علي معين صالح بعد نجاحه المثير للجدل في "كسر عضم"، حيث يتجه هذه المرة نحو الكوميديا الاجتماعية الخفيفة. ويُحسب للمخرجة رشا شربتجي أنها استطاعت أن تعيد إلينا شيئًا من روح أعمال والدها المخرج الراحل هشام شربتجي، على الرغم من أن النص بدا أحيانًا يسير في خط متعرج، بحواراته الطويلة وشخصياته التي تبدو كأنها صدى لشخصيات عرفناها سابقًا. يبرز "أيهم" (محمد حداقي)، سائق السرفيس الذي يعيد إلى الأذهان بتهكمه وصراحته شخصيات أحببناها في "الخربة"، وكأن العمل يستعير من ذاكرة المشاهد طيفها القديم ليقدمه بنَفسٍ جديد.في المقابل، تأتي نادين تحسين بك بشخصية "رولا" العائدة من أستراليا، لتنثر خفة ظلها في أرجاء القرية. هي مزيج من الحنين والغربة، تبتسم في وجه الواقع وكأنها ترفض الاعتراف بانكساره. ويكتمل المشهد بحضور القديرة صباح الجزائري في دور "التيتة أمينة"، التي تذكرنا بحضورها الآسر بأيام الكوميديا العائلية النظيفة، حين كانت الكلمة والابتسامة كافيتين لصنع مشهد لا يُنسى.

أكثر ما يلفت الانتباه في "نسمات أيلول" هو أنه لا يتحدث عن الحرب، ولا يذكّرنا بالخراب. بل يأخذنا إلى عالم ريفي هادئ يفيض دفئًا، حيث لا تُسمع أصوات المعارك، بل حكايات يومية عن الحب والخيبة والضياع. وكأن العمل يمنح المشاهد السوري استراحة محارب من واقعه المثقل، ولو عبر لحظات من الضحك الصادق. إخراجيًا، لا يمكن تجاهل الجمال البصري للعمل؛ فالألوان الدافئة، والإضاءة الطبيعية التي تشبه شمس الصباح، وحركة الكاميرا التي تراقب الوجوه بحنان، كلها عناصر جعلت من المسلسل لوحة فنية لطيفة تغري بالمشاهدة.

ربما لم يحقق "نسمات أيلول" كل ما وعد به، وربما بالغ أحيانًا في العبثية، لكنه نجح في إعادة شيء كدنا نفتقده: الدفء. تلك البساطة التي تذكرنا بأن الضحك يمكن أن يكون فعل مقاومة، وأن الكوميديا ما زالت قادرة على أن تعيدنا إلى أنفسنا. "نسمات أيلول" ليس مجرد مسلسل، بل هو محاولة حنين صادقة إلى زمن كانت فيه الدراما تصنع من تفاصيل الحياة العادية شيئًا جميلاً يستحق أن يُروى.


يمكنكم مشاهدة المسلسل عبر منصتي "شاهد" و"العربي بلس".

أحدث أقدم

 

نموذج الاتصال