ما بين ليبيا والكويت: ثروات نفطية وسياسات متناقضة تجاه الإعاقة



بينما تتّجه ليبيا، بكل ما فيها من ثروات نفطية ضخمة، نحو تضييق الخناق على الفئات الأضعف في المجتمع من أيتام وأرامل ومطلقات وأشخاص ذوي الإعاقة، تحت غطاء "إعادة تنظيم اللائحة"، تظهر لنا دولة نفطية أخرى مثل الكويت على الطرف المقابل من الطيف، حيث تُدار الثروة كأداة لحماية الكرامة لا وسيلة لتبرير التقشف والتمييز.

الكويت، ورغم كل التحديات الاقتصادية الإقليمية والدولية، تُقدّم نموذجًا لافتًا في كيفية تحويل العوائد النفطية إلى سياسات اجتماعية عادلة وشاملة. فالأشخاص ذوو الإعاقة هناك لا يُعاملون باعتبارهم عبئًا، بل باعتبارهم مواطنين كاملي الحقوق، لهم نصيب واضح ومُعلن في موارد الدولة، مصون بالقانون لا مزاج الإدارات.


وفقًا للمادة (65) من القانون رقم 8 لسنة 2010 بشأن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، تلتزم الدولة بمراجعة قيمة المعاشات والمخصصات المالية الممنوحة لذوي الإعاقة كل ثلاث سنوات على الأقل، لضمان مواكبتها لتغيرات تكلفة المعيشة. وليس ذلك مجرد حبر على ورق، بل تُطبَّق فعليًا؛ إذ أقرت الهيئة العامة لشؤون ذوي الإعاقة في يناير2023 زيادة جديدة قدرها 50 دينارًا كويتيًا شهريًا، يستفيد منها أكثر من 26 ألف شخص.


وما يُمنح في الكويت لا يقتصر على المبلغ النقدي فقط. بل يشمل حزمة شاملة من الحقوق:

  • معاش شهري يتراوح من 185 حتى 594 دينارًا كويتيًا، بحسب درجة الإعاقة والفئة العمرية. (ما يعادل 3006 إلى 9652 دينارًا ليبيًا).
  • دعم مادي للمرافقين، خاصة في حالات الإعاقات الشديدة.
  • إعفاءات من الضرائب والجمارك ورسوم الدولة.
  • دعم في التعليم والعمل والإسكان، بما في ذلك الحق في تخصيص مساكن ملائمة وتوظيف ميسر.
  • توفير أجهزة تعويضية وأدوات مساعدة مجانية، إضافة إلى مركبات مهيأة للتنقل.

وليس هذا كله منّة أو مكرمة حكومية، بل حق قانوني مصون يطبَّق تحت رقابة لجنة مالية تضم ممثلين عن وزارة المالية وإدارة الفتوى والتشريع، في شفافية كاملة.

في المقابل... ليبيا تلوّح بالمقصّ ضد الفئات الضعيفة

في ليبيا، ورغم وجود قانون واضح (رقم 16 لسنة 1985) يضمن المعاش الأساسي للفئات غير القادرة على العمل، ومنها الأشخاص ذوو الإعاقة، نجد الدولة تمضي في اتجاه عكسي تمامًا. لا زيادة تُقر، ولا حقوق تُصان، بل وقف تام للمعاشات منذ أكثر من أربعة أشهر، وسط صمت حكومي مريب، وتبريرات واهية من هيئة التضامن الاجتماعي بحجة تأخر الميزانية من وزارة المالية.

وما يُحكى عن "تعديلات لائحة استحقاق المعاش الأساسي" ليس إلا مقدّمة لسلسلة من الإجراءات المجحفة التي تهدد بحرمان آلاف الأشخاص من معاشاتهم، مثل:

  • حرمان اليتيم إذا كانت أمه تعمل.
  • حرمان المطلقة إذا كان والدها يتقاضى أكثر من 1000 دينار.
  • إسقاط المعاش عن مرضى الصرع "إذا لم تكن النوبات متكررة"، وكأن المرض صار مشروطًا بعدد مرات فقدان الوعي!
  • إلغاء معاش ذوي الإعاقات بناءً على "توصية لجنة طبية"، بدون ضمانات شفافة.
  • حرمان مرضى حساسية المعدة وأمراض أخرى بحجة أنها لا تُعطل كليًا عن العمل، في قراءة شديدة الضيق لفكرة العجز.

والسؤال الجوهري هنا: هل يُعقل أن تُسحب حقوق أساسية بقرار إداري أو توصية طبية، دون رقابة تشريعية، ودون آليات طعن فعالة؟

بين الحق والمنّة: فرق جوهري بين النموذجين

ما يميز النموذج الكويتي، مقارنةً بليبيا، هو الفلسفة التي ينطلق منها:

في الكويت، الدولة تقول لمواطنيها: لك حقٌ علينا لأنك مواطن.

في ليبيا، الرسالة الضمنية هي: إن استحققتَ المعاش، فاعتبره فضلًا مؤقتًا قابلًا للمراجعة والتقليص.

مع أن كلا البلدين من كبار منتجي النفط، فإن الفرق يكمن في الأولويات، وفي مدى التزام الدولة تجاه فئاتها الأكثر هشاشة.

في الوقت الذي يُفترض أن تلتزم فيه الدولة بمبادئ العدالة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، تستمر سياسة الإقصاء والتمييز في ملف الحج المخصص للأشخاص ذوي الإعاقة. حيث يجري منذ سنوات حصر فرص أداء هذه الفريضة العظيمة في فئة واحدة دون غيرها، هي مصابو حرب 17 فبراير، وكأن بقية الفئات من ذوي الإعاقة لا وجود لهم، أو لا يستحقون التقدير والاهتمام.

الالتزامات الدولية لا تسقط بالتقشف

ليبيا، وهي من الدول الموقعة على الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة (CRPD)، ملزمة قانونًا أمام المجتمع الدولي بـ:

  • توفير الدعم الاقتصادي والمعيشي الكافي.
  • ضمان الدمج الكامل للأشخاص ذوي الإعاقة في المجتمع.
  • عدم اتخاذ أي إجراء يؤدي إلى الإقصاء أو الإفقار أو التمييز.

لكن الواقع يكشف خرقًا فاضحًا لهذه الالتزامات، يتجلى في وقف المعاشات، غياب الشفافية، وانعدام القنوات القانونية للطعن.

الوعود الرسمية: من الإنجاز إلى التضليل

في اجتماع مجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب (المنامة – الدورة 44)، ألقت وزيرة الشؤون الاجتماعية الليبية، وفاء أبوبكر الكيلاني، كلمة أثارت جدلاً، لما تضمنته من مغالطات وصفها مختصون بأنها تزييف للواقع:

✅ اعتماد الكود الليبي في الوصول: صحيح نظريًا، لكن لا أثر فعلي له على الأرض.

❌ زيادة المعاشات بأكثر من 100%: لم تحدث.

❌ توفير وسائل نقل وسكن لذوي الإعاقة: لا يوجد ما يثبت ذلك.

❌ توفير الاحتياجات الأساسية: يعاني الآلاف من غيابها.

❌ دعم التعليم: التحديات التعليمية قائمة ومؤلمة.

✅ أجهزة برايل: متوفرة، لكنها محدودة جدًا.

✅ القاموس الموحد للغة الإشارة: تم إعلانه، دون تنفيذ فعلي.

الكلمة الحكومية عكست انفصالًا تامًا عن الواقع، واستُخدمت فيها فئة الأشخاص ذوي الإعاقة كأداة بروباغندا لا كمستفيدين فعليين من السياسات.

من النفط إلى الكرامة: الطريق الذي يجب أن تسلكه ليبيا

الدرس من الكويت ليس ماليًا فقط، بل أخلاقي وإنساني قبل كل شيء.

فمن غير المقبول أن تعيش فئات واسعة من الشعب الليبي في خوف دائم من فقدان الحد الأدنى من دخل الكفاف، في حين تُبدد الملايين في ملفات فساد وتضخم إداري لا طائل منه.

ما نريده في ليبيا ليس الاستنساخ الأعمى لتجارب الآخرين، بل الحد الأدنى من الكرامة والعدالة الاجتماعية، التي تبدأ من احترام القوانين القائمة، وعدم العبث بها بقرارات متسرعة، وتعويض كل متضرر من تأخير أو وقف تعسفي.لست سعيدًا بكتابة هذه التدوينة. ليس لأنني أقارن ليبيا بالكويت لمجرد المقارنة، بل لأن المقارنة تُوجِع. فبينما تُحقق دول مثل الكويت خطوات واضحة في مجال حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة  كما تابعت في الصحف الكويتية والمصادر الرسمية  نظل نحن في ليبيا ندور في حلقة مفرغة.

النفط عندهم وعندنا، لكن الفرق أن هناك من اختار أن يجعل من هذه الثروة وسيلة لبناء دولة تضمن الحقوق، وهنا من يواصل استغلالها لتكريس الفوضى وتلميع نخب تتحدث باسمنا دون إذن.

أشكر دولة الكويت على هذا التطور، وأتمنى أن يأتي يوم نكتب فيه عن تقدمنا نحن، لا عن وجعنا نحن.




أحدث أقدم

 

نموذج الاتصال