في واقعة تكشف عن خلل إداري عميق وفجوة تشريعية مقلقة، يجد الرياضيون الصم في ليبيا أنفسهم مرة أخرى ضحايا للإهمال والتهميش. فبينما تُصرف الملايين من المال العام على كيانات رياضية تفتقر إلى النشاط الفعلي والحضور الدولي، يُحرم أبطال الصم من أبسط حقوقهم: حق المشاركة، وحق الدعم، وحق المعاملة العادلة.
وعود مضللة وصدمة في اللحظة الأخيرة
بدأت القصة بوعود بدت براقة. وفقًا لتأكيدات مسؤولي الاتحاد العام للصم، جاءتهم تطمينات مباشرة من داخل وزارة الرياضة، ملخصها: "هاتو التأشيرة… والباقي يتوفر". هذا الوعد، الذي كان بمثابة ضوء أخضر للأبطال للاستعداد، تحول إلى سراب.
والأدهى من ذلك، أن هذا الإخفاق جاء حتى بعد أن رضخ الاتحاد لضغوط الوزارة ووافق على تقليص البعثة من 13 إلى 10 فقط، حسب ما أرادت الوزارة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أبلغ وكيل الوزارة الاتحاد بأن التكاليف ستُخفض، وأن الوزارة ستغطي "الإقامة والتذاكر فقط"، مع خصم "مصاريف الجيب" و"مبلغ الطوارئ"، وهو مبلغ مهم جداً للسفر. ورغم قسوة هذا الشرط، وافق اتحاد الصم على الفور، مؤكدين أن "المهم هو المشاركة" في الاستحقاق الدولي الهام، وتحديداً "الألعاب الدولية للصم بطوكيو"، ورفع علم ليبيا.
لكن الحقيقة كانت صادمة. فحتى مع كل هذه التنازلات (تقليص العدد والتخلي عن المصاريف)، نفد الوقت، ولم تُصرف الموارد الموعودة، ولم يصل الدعم، ليصبح السفر، الذي كان مقررًا، مستحيلًا. وجد الأبطال أنفسهم في مواجهة ما وصفوه بـ "الخداع الواضح" ووعود لم تُحترم، بدلًا من الدعم الذي استحقوه عن جدارة.
خلل تشريعي وإقصاء منهجي
هذا الإخفاق ليس وليد لحظته، بل هو عرض لمرض أعمق يتمثل في خلل مؤسسي. يتجلى هذا بوضوح في مشروع قانون الرياضة الأخير، حيث تجاهلت الوزارة بشكل كامل إشراك الأشخاص ذوي الإعاقة وهم المعنيون مباشرة في صياغة التشريع، واعتمدت على استشارة جهة واحدة فقط.
يُعد هذا الإجراء مخالفة صريحة للمعايير الدولية ومبادئ الحوكمة الرشيدة التي تقتضي المشاركة الواجبة لجميع الأطراف في صياغة القوانين التي تمسهم. إن غياب التشاور الشامل هو مؤشر خطير على إدارة تفتقر للشفافية وتتخذ قراراتها بمعزل عن الواقع وحقوق الفئات المعنية.
تاريخ من التجاهل ومشاركة مستحيلة
ما حدث هو مجرد حلقة في سلسلة طويلة من التجاهل. ويزيد من فداحة الموقف ما أكده أحد مسؤولي اتحاد الصم بأن "موضوع المشاركة كان مطروحًا لدى وكيل الوزارة ومدير مكتب الوزير منذ ثلاثة أشهر". هذا التجاهل الممتد، رغم العلم المسبق، يوضح عمق الأزمة.
لأكثر من عقد من الزمان، يواصل اتحاد الصم إرسال المطالبات والمراسلات الرسمية دون جدوى. النتيجة كانت:
- غيابًا كاملًا للدعم المالي والفني.
- تجاهلًا مستمرًا للنداءات المتكررة.
حرمان منتخب ألعاب القوى من تمثيل ليبيا، رغم الإنجازات القارية التي حققوها في بطولة إفريقيا 2023.
ومع الوعود الوهمية الأخيرة وتأخر الإجراءات، أصبحت مشاركة هؤلاء الأبطال في أي استحقاق دولي قادم "شبه مستحيلة".
مفارقة التمويل والمسؤولية المباشرة
المفارقة الصارخة تكمن في إدارة المال العام. ففي الوقت الذي تُحجب فيه أبسط أشكال الدعم عن رياضيي الصم، تُنفق الملايين على أندية وكيانات لا تملك أي حضور إفريقي أو عالمي يُذكر، وبعضها بلا نشاط فعلي على الإطلاق.
وتتجلى هذه المفارقة بوضوح الآن، حيث يتواجد الوزير حاليًا في المملكة العربية السعودية لحضور دورة ألعاب التضامن الإسلامي، بوفد ليبي ضخم يتجاوز 80 مشاركًا (دون احتساب الإداريين). ورغم هذا الحجم الهائل للوفد، فإن الحصيلة الليبية حتى الآن هي ميدالية برونزية واحدة فقط، مما يطرح أسئلة جدية حول أولويات الإنفاق مقابل العائد.
هذا التمييز الواضح في الإنفاق يطرح أسئلة حول أولويات الوزارة وينتهك الحقوق القانونية والدستورية لهؤلاء الرياضيين. وتقع المسؤولية في ذلك بشكل مباشر على:
الوزير المكلف بإدارة قطاع الرياضة: بصفته المسؤول الأول عن السياسات العامة للوزارة.
وكيل الوزارة: بصفته المسؤول عن التنفيذ والمتابعة وضمان تنفيذ الالتزامات.
فالمال العام ليس ملكًا شخصيًا، ولا يجب أن يكون أداة لإرضاء فئة على حساب أخرى، خاصة عندما يتعلق الأمر بفئة أثبتت جدارتها
أسئلة تنتظر الإجابة
يفتح هذا الحادث الباب أمام علامات استفهام كبيرة يجب ألا تُغلق دون محاسبة:
- من اتخذ قرار تجاهل المنتخب الوطني للصم؟
- لماذا لم تُنفذ الوعود الصريحة التي قُطعت لهم؟
- من يُحاسب على ضياع فرصة تمثيل ليبيا في حدث دولي مرموق؟
- والأهم: كيف تُدار الأموال العامة داخل الوزارة، وعلى أي أساس تُحدد الأولويات؟
خلاصة: ليس خطأ إداريًا، بل خلل مؤسسي
ما حدث مع رياضيي الصم يتجاوز كونه مجرد خطأ إداري؛ إنه انعكاس لخلل مؤسسي عميق، وغياب للمساءلة، وسياسة وعود مضللة تسببت في حرمان أبطال حقيقيين من حقهم في رفع علم ليبيا.
وهذا الخلل، كما يراه الكثيرون، هو نتيجة مباشرة للمحاصصة السياسية في المناصب الإدارية على حساب الكفاءة. فطالما استمر إسناد المناصب العليا لغير المختصين، ستتكرر هذه الأخطاء، سواء كانت عن عدم دراية أو عن إهمال متعمد.
يجب أن تدرك الوزارة أن التعامل مع هذه الفئة هو مقياس حقيقي لجديتها. فرياضيو الصم، وإن كانوا محرومين من السمع، فهم ليسوا غافلين عن حقوقهم، بل هم واعون وفاهمون للإجراءات الإدارية ولا يمكن خداعهم بالوعود الواهية.
إن إصلاح هذا المسار يبدأ بالاعتراف بالخطأ، ويستمر بمحاسبة المسؤولين، وينتهي بوضع تشريعات عادلة تضمن تكافؤ الفرص وسيادة القانون. إنصاف هذه الفئة هو واجب أخلاقي ووطني لا يحتمل مزيدًا من التأجيل.
