يعيش الإعلام الليبي حالة مأزومة تعكس أزمات البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فالمشهد الإعلامي لا يفتقر فقط إلى لغة الإشارة ووسائل النفاذ لذوي الإعاقة، بل يواجه أيضاً أزمات هيكلية وتقنية ومهنية تقيد قدرته على أداء دوره الأساسي في خدمة المجتمع وضمان الحق في الوصول إلى المعلومات.
فجوة لغة الإشارة: مؤشر على التهميش
تكشف إحصائيات الهيئة العامة لرصد المحتوى الإعلامي (نوفمبر 2024) أن نسبة البرامج المرفقة بلغة الإشارة لم تتجاوز 3% من إجمالي المحتوى في عشر قنوات ليبية، باستثناء قناة "التناصح" التي سجلت 17%. هذه الأرقام الصادمة تؤكد حجم التهميش الذي تعانيه شريحة الصم وضعاف السمع، في وقت تقدّر فيه منظمة الصحة العالمية عدد هذه الفئة بنحو 70 مليون شخص حول العالم، 80% منهم في الدول النامية.
تراجع الصحافة الورقية وصعوبة التحول الرقمي
منذ 2011 تقلّص عدد الصحف المطبوعة في بنغازي من 30 صحيفة إلى بضع صحف غير منتظمة، ما أدى إلى فقدان مئات الوظائف الصحفية. ورغم الانتقال إلى الفضاء الرقمي، تعاني المواقع الإخبارية من ضعف التحديث وتدنّي الجودة وغياب المعايير التقنية، وهو ما يفتح الباب واسعاً أمام الأخبار المضللة.
هيمنة وسائل التواصل وتضاؤل المصداقية
أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي المصدر الأول للأخبار في ليبيا، خاصة خلال الأزمات الأمنية. لكن هذه السرعة جاءت على حساب المصداقية، إذ تغيب آليات التحقق المستقلة، بينما تنتشر المعلومات المضللة بتأثير جهات محلية وخارجية، ما يعزز الاستقطاب السياسي والمجتمعي.
ضعف البنية التحتية ونقص الكفاءات
البنية التحتية الرقمية في ليبيا متأخرة بشكل واضح، مع وجود مناطق محرومة من الإنترنت المستقر. كما يعاني القطاع من نقص شديد في الكفاءات التقنية بمجالات مثل الأمن السيبراني وإدارة المحتوى الرقمي. ورغم مبادرات تدريبية مثل "مشروع 166"، تبقى الجهود محدودة مقارنة بحجم التحدي.
إشكاليات الحوكمة والقيود القانونية
المشهد الإعلامي محكوم بسياسات مركزية وقوانين قديمة تحد من حرية الصحافة، أبرزها قانون المطبوعات لسنة 1972 وقانون مكافحة الجرائم الإلكترونية. وتنعكس هذه البيئة القانونية على تصنيف ليبيا في المرتبة 143 عالميًا في مؤشر حرية الصحافة لعام 2024، ما يدفع كثيراً من الصحفيين إلى ممارسة الرقابة الذاتية.
تأخر في تقنيات الذكاء الاصطناعي
بينما تتحرك مؤسسات إعلامية عالمية نحو اعتماد الذكاء الاصطناعي في الإنتاج والتحقق من المعلومات، ما يزال الإعلام الليبي متأخراً، ولا يتعدى حضوره سوى بعض المبادرات التدريبية المحدودة التي تنظمها جهات دولية أو حكومية.
مبادرات وحلول قيد البناء
رغم قتامة المشهد، برزت مبادرات واعدة مثل استراتيجية التحول الرقمي الحكومي 2030، ومنصات التحقق من الأخبار مثل "تحرى" و"فالصو". لكنها تبقى خطوات جزئية تحتاج إلى استدامة وتوسيع نطاقها.
توصيات وخطوات مستقبلية
لكي يتحول الإعلام الليبي إلى رافعة للتنمية والديمقراطية، هناك أولويات لا يمكن تجاوزها:
- إلزام القنوات باعتماد لغة الإشارة في النشرات والبرامج المهمة.
- تطوير البنية التحتية الرقمية وربطها ببرامج تدريبية متقدمة للإعلاميين.
- إصلاح الإطار القانوني بما يضمن حرية الصحافة وحماية الصحفيين
- تعزيز محو الأمية الإعلامية وإنشاء منصات مستقلة للتحقق من الأخبار.
- تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص لتطوير منصات إعلامية حديثة شاملة.
إن مستقبل الإعلام الليبي لن يُبنى عبر حلول جزئية، بل من خلال رؤية شاملة تتشارك فيها الدولة والمؤسسات الإعلامية والمجتمع المدني. فقط عبر هذا النهج المتكامل يمكن بناء إعلام وطني قادر على مواكبة التطورات العالمية، وضامن لحق الوصول إلى المعلومات لجميع فئات المجتمع، دون استثناء.