في خضم الإشادة التي حظيت بها وزارة الرياضة من قبل صفحة "الأولمبي الليبي" على فيسبوك وهي منصة إعلامية رياضية تتمتع بمتابعة واسعة ومصداقية مهنية—ووصفها بأنها "الأفضل منذ عقود"، تبرز أصوات نقدية تقدم قراءة مغايرة للواقع. يرى هذا التيار أن هذا الثناء، رغم أهميته، يتجاوز حقائق جوهرية تتعلق بأولويات إنفاق المال العام، والتركيز غير المتكافئ على رياضة واحدة على حساب باقي المنظومة الرياضية. هذا التحليل لا يهدف إلى التقليل من أي إنجازات تحققت، بل يسعى لتقديم قراءة موضوعية تستعرض هاتين الرؤيتين المتعارضتين لفهم أعمق للتحديات والفرص.
جوهر النقد: كرة القدم كواجهة شعبوية
ينطلق النقد الأساسي من حقيقة أن وزارة الرياضة توجه الجزء الأكبر من ميزانياتها الضخمة نحو الاتحاد الليبي لكرة القدم، وما يتبعه من دعم للأندية الكبرى. ويتجلى هذا التوجه بوضوح في إنفاق أموال طائلة من المال العام على فعاليات استعراضية، مثل تنظيم دوري سداسي التتويج في ميلانو، وهو ما يعتبره الكثيرون حدثًا دعائيًا لا يخدم التطوير الحقيقي والمستدام للرياضة على المستوى المحلي. هذا التركيز المفرط يُفسَّر على أنه استثمار مباشر في الشعبوية والبروباغندا الحكومية؛ فالوزارة، بإدراكها للقاعدة الجماهيرية الهائلة لكرة القدم، تستخدمها كأداة لتلميع صورتها وتحقيق مكاسب سياسية، بينما يتم ذلك على حساب الألعاب الأخرى التي تكافح بصمت بعيدًا عن الأضواء من أجل الحصول على أبسط أشكال الدعم.
التكلفة الحقيقية: تهميش الألعاب الأخرى
الضحية الأكبر لهذا التوجه الانتقائي هي الرياضات الأخرى، وعلى رأسها رياضات الأشخاص ذوي الإعاقة (البارالمبية) والرياضات النسائية، التي تُترك لتواجه مصيرها. فبينما تُغدق الملايين على كرة القدم، تعاني هذه الألعاب من نقص حاد ومزمن في التمويل والبنية التحتية، مما يحرم رياضييها من أبسط مقومات النجاح، كالمرافق التدريبية اللائقة، المعدات الحديثة، وفرصة المشاركة في البطولات الدولية لاكتساب الخبرة. هذا الوضع لا يعكس مجرد سوء إدارة للموارد، بل يكشف عن غياب تام لرؤية استراتيجية تهدف إلى تحقيق تنمية رياضية شاملة ومتوازنة، قادرة على استثمار كافة المواهب الوطنية وصناعة أبطال في مختلف المحافل.
قراءة في "الإشادة": اعتراف ضمني بالمشكلة
المفارقة اللافتة تكمن في أن منشور صفحة "الأولمبي الليبي" نفسه، ورغم طابعه الإيجابي العام، يقدم في نهايته قائمة من التوصيات التي تبدو وكأنها نقد مبطن ومؤدب للوضع الحالي. فعندما تطالب الصفحة، التي وصفت الوزارة بالأفضل، بضرورة تفعيل الرقابة المالية على أموال الدولة بالتعاون مع هيئة مكافحة الفساد، فإنها تقر ضمنيًا بوجود ضعف أو غياب لهذه الرقابة. وعندما تشدد على منع ظاهرة سفر البعثات لغرض السياحة، فهي تعترف بوجود هذه الممارسة المهدرة للمال العام. كما أن دعوتها للاهتمام بالأشخاص ذوي الإعاقة والعنصر النسائي هي إقرار مباشر بتهميشهما الحالي. هذه التوصيات، في جوهرها، هي نفس النقاط التي يرتكز عليها النقد الموجه للوزارة، مما يجعل من الإشادة إقرارًا غير مباشر بوجود المشاكل.
خاتمة: الحاجة إلى ما هو أبعد من الإنجازات السطحية
في الختام، لا يمكن إنكار وجود بعض الإنجازات الملموسة على صعيد البنية التحتية، لكن قيمتها تبقى محدودة إذا لم تُبنَ على أساس من العدالة والشفافية في توزيع الموارد. إن التحدي الحقيقي الذي يواجه وزارة الرياضة ليس فقط بناء الملاعب، بل بناء نظام رياضي متكامل ومستدام يضمن لكل رياضي في ليبيا، بغض النظر عن لعبته أو حجم قاعدتها الجماهيرية، حقه الأصيل في الدعم والتطوير. فإدارة المال العام ليست رفاهية، بل هي مسؤولية تتطلب أن يكون كل دينار يُنفق استثمارًا حقيقيًا في مستقبل الرياضة الوطنية بأكملها، لا مجرد أداة للدعاية السياسية أو تحقيق شعبية مؤقتة.
