يُفترض بوسائل الإعلام أن تكون مرآة للمجتمعات وصوتًا حرًا ومستقلًا. ولكن، حين تتحول لخدمة أجندات سياسية، تتبدد الثقة التي اكتسبتها. هذا الواقع يتجلى بحدة في المشهد الإعلامي الليبي، حيث لا تقتصر ممارسات بعض القنوات على إثارة تساؤلات حول استقلاليتها ودورها الحقيقي في تشكيل الوعي فحسب، بل قد تمتد لتؤثر بشكل ملموس على مسارات الاستقرار والتوافق الوطني الهش.
غياب الإعلام الوطني الحقيقي: إرث وفراغ وتساؤلات حول الحاضر
ليبيا، بتاريخها الإعلامي العريق منذ تأسيس تلفزيونها الرسمي في الستينيات، لا تزال تفتقر إلى "إعلام وطني حقيقي" مستقل يعبر عن هوية جامعة دون تحيز أو تدخل خارجي. فالقنوات الحالية غالبًا ما ترتبط بأجندات سياسية داخلية أو تمويل خارجي، مما يُضعف دورها كمنبر وطني مستقل.
وفي هذا السياق، يبرز وضع قناتي "ليبيا الوطنية" و"الرسمية". فعلى الرغم من أنهما تبثان من العاصمة طرابلس، وتُعتبران من أوائل القنوات على مستوى ليبيا، بل ووريثتين لإرث إعلامي يمتد من فترة الجماهيرية وما قبلها إبان العهد الملكي، إلا أن المفارقة الصارخة تكمن في أن تأثيرهما وحضورهما في المشهد الإعلامي الحالي يبدو باهتًا وغير متناسب إطلاقًا مع هذا الإرث العريق وموقعهما المفترض كصوت للدولة، مما يجعلهما أشبه بآثار تاريخية أكثر من كونهما لاعبين مؤثرين. هذا الغياب النسبي للتأثير يطرح تساؤلات إضافية حول قدرة المؤسسات الإعلامية الرسمية على المنافسة والتأثير في ظل التحديات الراهنة واستقطاب المشهد.
نماذج من المشهد: قنوات ليبية تحت مجهر التوجيه
وتتعدد الشواهد على هذا المنحى المقلق، حيث تكشف نظرة فاحصة على عدد من القنوات البارزة عن أنماط متشابهة حيناً ومتباينة حيناً آخر في أساليب التوجيه والتأثير:
1. قناة سلام الليبية: من الترفيه إلى التوجيه
نجحت قناة "سلام" بدايةً في كسب الجمهور بمحتوى ترفيهي بعيد عن السياسة، مما أكسبها ثقة واسعة. لكنها فجأة، تحولت لتمرير رسائل سياسية وترويج لمظاهرات مؤيدة للحكومة، فيما يبدو كخداع إعلامي مدروس. استغلت القناة ثقة الجمهور بالترفيه لتحويلهم إلى أرقام في آلة الدعاية، مما يطرح سؤالاً حول مدى استغفال المشاهد.
2. قناة ليبيا الأحرار: تمويل خارجي، خطاب موجّه، واستراتيجية القوة الناعمة
تُمثل قناة "ليبيا الأحرار" تحديًا آخر، إذ يُنظر إليها كناطق باسم مموليها. عملها من إسطنبول وتمويلها المزعوم من قطر يثيران شكوكًا حول حياديتها. يخدم خطابها مصالح الممول، متجاهلًا أصواتًا ليبية أخرى وتغطية انتقائية للأحداث. هذا التدخل الأجنبي، بتمويل قناة تخاطب شعبًا آخر وتتدخل في شؤونه، أمر يصعب قبوله.
لفهم أعمق لآلية التأثير المحتملة، يمكن النظر إلى السياسة الإعلامية القطرية الموصوفة بأنها تعتمد نهج "القوة الناعمة". هذا النهج، على عكس سياسات التمويل الإعلامي السعودي والإماراتي التي قد تفرض تملقًا مباشرًا، يقوم على تجنيد طاقات متنوعة، ولا يشترط عليها بالضرورة مديح قطر بشكل صريح. بل يُفتح المجال أمامها لانتقاد أمريكا، ومهاجمة إسرائيل، ولعب دور الداعم للقضية الفلسطينية وحرية الشعوب العربية. هذه الشعارات، عند توظيفها ببراعة ضمن الخطاب الموجه لليبيا، تكون كفيلة بجذب شرائح من الجمهور المحلي وإضفاء غطاء من المصداقية على توجهات القناة، حتى وإن كانت تخدم في نهاية المطاف أجندات أوسع لا تتطابق بالضرورة مع المصلحة الوطنية الليبية الخالصة.
ولكن، وفقًا لهذا التحليل، هناك خطوط حمراء واضحة، أبرزها التعتيم على الدور الحقيقي للقواعد العسكرية الأمريكية في قطر ودول عربية أخرى، ودورها المركزي في استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والهيمنة الأمريكية على المنطقة. يُصبح ذكر هذه القواعد، التي تنطلق منها أسلحة استراتيجية، أمرًا محظورًا، لدرجة اعتبارها كأنها غير موجودة. هذا التعتيم، بحسب التحليل، يجعل الإعلام المشارك فيه، سواء بوعي أو بغير وعي، أداة تساهم في حجب الحقائق عن الجمهور العربي، وتخدم أجندة تهدف إلى السيطرة على العقل العربي وتوجيهه بما يتماشى مع الرؤية الأمريكية للمنطقة.
الهدف من هذه الاستراتيجية الإعلامية، كما يُطرح، هو تحييد الطاقات العربية الفاعلة ومنعها من رفع وعي مناهض للهيمنة الأمريكية، وتحويل النخب المثقفة والإعلامية إلى أدوات تعمية عن جوهر الصراع وأدوات العدوان. وفي سياق قناة مثل "ليبيا الأحرار"، فإن تجاهلها الممنهج لأحداث لا تصب في توجهات الممول، كما ذُكر سابقًا بخصوص المظاهرات السلمية، قد يُفسر ضمن هذا الإطار الأوسع لسياسة إعلامية تهدف إلى توجيه الرأي العام وحجب جوانب من الحقيقة لا تخدم الأجندة النهائية. فالغاية، كما يراها البعض، هي التحكم في صناعة الوعي واحتكار الحقيقة، بما يخدم مصالح القائمين على هذا النظام الإعلامي وحلفائهم.
3. قناة الحدث الليبية: صوت الشرق المنحاز
قناة "الحدث الليبية"، المنطلقة من بنغازي، تُعرف بدعمها لمؤسسات شرق البلاد (مجلس النواب بقيادة عقيلة صالح، والقوات المسلحة بقيادة خليفة حفتر). يتبنى خطابها توجهًا منحازًا، وتغيب عنها التعددية، مما يجعلها أداة في الصراع السياسي. وتشير مصادر لدعمها من رجال أعمال ومؤسسات مقربة من سلطات الشرق، مما يطرح إشكاليات تمويل موجّه وانعدام الاستقلالية.
4. قناة المسار: مهنية مُعلنة وانحياز مُبطّن
تُعرّف قناة "المسار" نفسها كإخبارية محايدة تبث من عمّان، لكن يلاحظ متابعون ميولها لدعم حكومة شرق ليبيا وانحيازها ضد حكومة الدبيبة. هذا التباين، مع غموض مصادر تمويلها، يضع حياديتها المعلنة موضع تساؤل.
دراسة حالة موجزة: قناة الوسط (WTV) واستراتيجية القوة الناعمة بالترفيه
برزت قناة "الوسط" (WTV) كإحدى القنوات اللافتة في ليبيا، بمزجها المحتوى الترفيهي المتنوع برسائل ضمنية قد تحمل أبعادًا سياسية، مما يجعلها نموذجًا لفهم ديناميكيات الإعلام الليبي. تُعد القناة جزءًا من "مؤسسة الوسط الإعلامية" (تأسست 2013)، وقد اختارت تواريخ وطنية رمزية لبدء بثها (التجريبي في ذكرى انطلاق التلفزيون الليبي 2018، والرسمي في ذكرى انتفاضة فبراير 2019)، بهدف بناء ارتباط رمزي مع الجمهور.
يقع مقر القناة الرسمي في بيروت، بينما يُشار إلى أن مقر المؤسسة الأم قد انتقل مؤخرًا إلى تونس، مما قد يوفر لها حماية من الضغوط الداخلية ويمنحها مظهرًا من الاستقلالية، ويسهل وصولها للبنية التحتية الإعلامية الإقليمية. تُعلن "مؤسسة الوسط" التزامها بالصدقية والحياد، لكن تحقيق ذلك يظل تحديًا في المشهد الليبي المستقطب. يُنظر إلى تركيزها على الترفيه مع تضمين رسائل سياسية مبطنة كاستراتيجية "قوة ناعمة" للتأثير في الرأي العام دون دعاية مباشرة.
خاتمة ودعوة للنقاش: نحو سيادة إعلامية ليبية حقيقية
يستدعي المشهد الإعلامي الليبي المعقد نقاشًا وطنيًا شفافًا حول مستقبله. التدخلات الأجنبية تنتقص من السيادة الوطنية وتوجه الوعي العام. الإعلام ليس مجرد ترفيه، بل قوة ناعمة تُستخدم لتوجيه الشعوب. القنوات التي تدّعي الحياد وهي أذرع لجهات داخلية أو خارجية تمثل خطرًا على الوعي الجمعي. كشف هذا الواقع ومساءلة مدّعي "الحياد" ضروريان. إن بناء إعلام ليبي وطني حر ومستقل ومسؤول هو أساس بناء دولة ديمقراطية مستقرة. ويظل الرهان الحقيقي على شفافية مصادر التمويل وهوية الأجندات؛ فبينما تستند هذه التحليلات إلى ما هو متاح ومتداول، يبقى الوصول الكامل للمعلومات الدقيقة حول آليات دعم كافة القنوات أمرًا بعيد المنال – مع استثناءات قليلة كالإعلان عن تمويل قناة "ليبيا الأحرار" من الديوان الأميري القطري، وهو ما يُحسب لها. إن المطالبة بكشف هذه الحقائق ليست ترفًا، بل هي حق أصيل للمواطن وضرورة ملحة لبناء إعلام وطني مسؤول يسهم في تحقيق السيادة الإعلامية المنشودة.