في زمن لم تكن فيه الإنترنت قد غزت منازلنا، ولم تكن القنوات الفضائية بعدُ قد تغلبت على البث الأرضي، كانت القناة الليبية الثانية نافذتنا الصغيرة نحو العالم الكبير. وبرمجها الذي كان يُبث بالفرنسية والإنجليزية، منحنا نحن أطفال الثمانينيات والتسعينيات فرصة نادرة للتعرّف على ثقافات بعيدة وشخصيات كرتونية لا تُنسى. من بين تلك الشخصيات، لا تزال صورة الكلب الذكي والمحبوب "ريكسيوREKSIO" محفورة في الذاكرة.
"ريكسيو" لم يكن مجرد كلب كرتوني؛ كان بطلًا يعيش مغامرات متنوعة، تتنقل بين عالم الإطفاء والموسيقى وطب الأسنان، وحتى تسلق الجبال والتمريض. لم يكن يتحدث، لكن تعابيره ولغته الجسدية البسيطة كانت كافية لتأسر قلوبنا وتنقل رسائل مليئة بالدفء والبساطة. وها هو اليوم، يحتفل بمرور 55 عامًا على ولادته في مدينة بييلسكو-بياوا Bielsko-Białaالبولندية، حيث وُلدت فكرته وصُنع تاريخه في استوديو الرسوم المتحركة الشهير هناك.
لم يكن "ريكسيو" مجرد عمل ترفيهي عابر، بل يُعد علامة بارزة في تاريخ الرسوم المتحركة في أوروبا الشرقية. وُلد في أحضان استوديو الرسوم المتحركة في بييلسكو-بياوا، نفس المكان الذي قدّم شخصيات شهيرة مثل بوليك ولوليك، وبدأ بث أولى حلقاته عام 1967. جاء إنتاجه في فترة كانت فيها بولندا، مثل كثير من دول الكتلة الشرقية، تسعى لإنتاج محتوى تربوي يحمل قيماً إنسانية بلغة بصرية بسيطة، دون الحاجة إلى حوار. وهذا ما ميّز ريكسيو: الصمت المتعمد، الذي جعله مفهومًا عالميًا، ولغته البصرية التي عبرت الحدود واللغات، ووصلت حتى إلى الأطفال في ليبيا من خلال البث الأوروبي عبر القناة الليبية الثانية.
بلغ عدد حلقاته 65 حلقة، أُنتجت على مدى أكثر من عقدين، وتطوّر فيها تصميم الشخصية تدريجيًا. ففي البداية، كان يرتدي طوقًا ويظهر بتصميم مختلف قليلًا، لكن مع مرور الوقت خضع لتغييرات جعلته أكثر مرونة في الحركة وأكثر تعبيرًا. وقد استخدمت في إنتاجه تقنيات تقليدية للرسم على الورق والشفافيات، قبل أن تتحول بعض الحلقات في الثمانينيات إلى أساليب أكثر تطورًا. شهرة ريكسيو لم تقتصر على بولندا، فقد عُرضت نسخ مدبلجة منه في عدة دول، بل وتُرجم إلى اللغة الإنجليزية والروسية، وعُرف في الاتحاد السوفييتي باسم "Sobaka Reks".
نصب ريكسيو التذكاري في بيلسكو. تم الكشف الرسمي عنه في عام 2009. يزن هذا الريكسيو 120 كيلوغرامًا، ويبلغ ارتفاعه 90 سنتيمترًا، ويقف على قدمين وهو مصنوع من البرونز.
ما زال تمثاله البرونزي في قلب المدينة، بوزن 120 كيلوغرامًا، يقف شاهدًا على حب الأجيال له. ويقال إن لمس أنفه يجلب الحظ، لذا لا عجب أن نرى الأطفال يلتفون حوله يوميًا في مشهد مفعم بالدفء. تخليد لشخصية كرتونية قد يبدو أمرًا عاديًا في الغرب، لكن في قلوبنا كأطفال نشأنا على ما تبثه القناة الليبية الثانية، كانت هذه الشخصيات جسورًا خفية إلى العالم، قبل أن نفهم حتى فكرة "الثقافة العالمية."
ورغم النقاشات التي ما تزال تُثار حول ما إذا كان ريكسيو كلبًا أصيلًا أم مجرد "كندلك"، تبقى الحقيقة أن إلهام هذه الشخصية جاء من كلبة حقيقية تُدعى "تْرولا"، كانت مملوكة للمخرج ليخوسواف مارشاليك وزوجته، وكانت تحب الشوكولاتة وتفيض حيوية، تمامًا كريكسيو على الشاشة.
كانت أيامنا أبسط، وأحلامنا أوسع من شاشة تلفزيون صغيرة. بالنسبة لي، لم تكن مشاهدة "ريكسيو" مجرد تسلية، بل كانت نافذة أهرب بها من قيود الإعاقة إلى عالم مليء بالحيوية والمغامرة. في كل حلقة، كنت أرى جزءًا من حلمي في الحركة، في الاكتشاف، في الضحك من القلب. وربما لم أكن أركض مثل ريكسيو، لكني كنت أرافقه بخيالي، وأصنع لنفسي عوالم تشبه تلك التي لم تكن الطرق المعبدة إليها ممكنة في الواقع. ولهذا، سيظل "ريكسيو" عندي أكثر من مجرد كلب كرتوني، بل رمزًا لطفولة لم تمنعها الإعاقة من أن تحب، وتتأمل، وتحلم.
هنا جانب من برامج من القناة الليبية الثانية جمعها المدون هشام بومدين 👇