في دولة تمتلك موارد نفطية ضخمة، من المخجل أن نجد أشخاصًا مثل ميلاد يواجهون قسوة الحياة وحدهم، دون أي دعم حقيقي من المؤسسات المسؤولة. ميلاد، شاب يعاني من إعاقة جسدية، لكنه لم يستسلم للواقع المرير، بل اختار طريق الكفاح والعمل رغم كل الصعوبات. يعمل يوميًا في ورشته الصغيرة لإصلاح الأجهزة الكهربائية، متحديًا إعاقته، وقلة الدعم المادي، وظروف الحياة القاسية. وقد ألقى الضوء على قصته مقدم برنامج "العاطي حي" على قناة ليبيا الأحرار ، السيد أسامة الزياني، الذي قدمها بكل شفافية، مبرزًا معاناة ميلاد. والسيد أسامة، الذي يشغل أيضًا منصب مدير مكتب إعلام الهيئة العامة لصندوق التضامن الاجتماعي، يعطي انطباعًا بأن تحقيقًا تلفزيونيًا قد أُجري في استقصاء لحالة ميلاد، ليكشف عن واقع مؤلم يستحق الانتباه.
ميلاد يزحف يوميًا مسافة كيلومتر للوصول إلى ورشته في ضواحي الهيشة، وإذا حالفه الحظ وزاره زبائن، قد يصل دخله إلى 40 دينارًا في اليوم. لكن عندما تمطر السماء، يصبح الوصول مستحيلاً، فيضطر للبقاء في البيت أحيانًا لأسبوع، يأخذ القطع معه ليصلحها هناك. منذ عشر سنوات، يواصل ميلاد عمله بصبر وعزم كبيرين. يقود سيارة أخيه باستخدام تل 6 للضغط على الدواسات، ومع ذلك يحلم فقط بأن يجد من يعينه. راتبه من الضمان الاجتماعي 700 دينار، يأتي مرة ويغيب ثلاثة أشهر، بينما يضطر للسفر إلى مصراتة لشراء دواء يكلف أكثر من 1500 دينار.
لست مع هذه البرامج.. لكن الحقيقة يجب أن تُقال
شخصيًا، لست مع مثل هذه البرامج التي تعتمد على استعراض المعاناة الشخصية للأفراد بهدف الإثارة العاطفية، خاصة عندما تُصور ذوي الإعاقة وكأن نهاية العالم قد حلت بهم، مع صورة نمطية لموسيقى حزينة أجدها مزعجة ومبالغًا فيها. لكن، رغم ذلك، لا يمكننا إنكار الحقيقة الواضحة: الدولة لا تقوم بإدارة شؤون مواطنيها بالشكل المطلوب. هذا الواقع يدفعنا للكشف عن القصور والتقصير الفاضح في دعم الفئات الضعيفة والمهمشة، وعلى رأسهم الأشخاص ذوو الإعاقة.
واقع مرير.. وإهمال رسمي
على الرغم من أن الدولة تمتلك موارد مالية هائلة، إلا أن المعاناة التي يعيشها ذوو الإعاقة في ليبيا تكشف عن تقصير واضح من قبل الهيئة العامة لصندوق التضامن الاجتماعي ووزارة الشؤون الاجتماعية. فبدلًا من توفير بيئة داعمة تُشجع المبادرات الفردية وتمويل المشاريع الصغيرة القادرة على تمكينهم اقتصادياً، نجد أن ميلاد يحصل على مبلغ زهيد لا يتجاوز 700 دينار شهريًا، وهو مبلغ لا يكفي لسد احتياجاته الأساسية، ناهيك عن تطوير ورشته التي يُصارع من خلالها البطالة والفقر. إن دعم مثل هذه المشاريع ليس خيارًا ثانويًا، بل هو خطوة جوهرية لتحقيق الاستقلالية المادية وتفادي سياسة الصدقات المؤقتة التي لا تُغني عن الحقوق المُكفولة.
أين حق ذوي الإعاقة؟
ليبيا صادقت على الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي تؤكد على ضرورة توفير بيئة عمل مناسبة تتيح لهم المشاركة الفعالة في المجتمع بكرامة واستقلالية، لكن الواقع في ليبيا مختلف تمامًا. فبدلًا من تطبيق هذه الالتزامات، مثل توفير وظائف مناسبة، أو دعم مالي حقيقي، أو حتى تأمين صحي يغطي احتياجاتهم، يُترك الأشخاص مثل ميلاد لمواجهة مصيرهم وحدهم. إن غياب الدولة عن مسؤولياتها تجاه هذه الفئة، رغم توقيعها على الاتفاقية، يضعها أمام مساءلة أخلاقية وقانونية. ومن غير المعقول أن يتولى برنامج تلفزيوني مهمة دعم هؤلاء الأفراد، بينما يجب على الدولة أن تتحمل مسؤوليتها الكاملة في تشجيع وتمويل مشاريع صغيرة لذوي الإعاقة، مثل ورشة ميلاد، لتكون نموذجًا يُحتذى به بدلاً من ترك الأمر لمبادرات مؤقتة أو استعراضية.
مطالب مستحقة
على الهيئة العامة لصندوق التضامن الاجتماعي ووزارة الشؤون الاجتماعية أن تتحمل مسؤولياتها الكاملة تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة، عبر:
- رفع قيمة المساعدات المالية بحيث تتناسب مع غلاء المعيشة.
- توفير فرص عمل مناسبة للأشخاص ذوي الإعاقة، تتماشى مع إمكانياتهم وقدراتهم.
- تشجيع المشاريع الصغيرة لذوي الإعاقة من خلال تقديم قروض ميسرة أو دعم لوجستي لتطوير أعمال مثل ورشة ميلاد.
- تقديم تسهيلات في التنقل من خلال وسائل نقل مجانية أو مخفضة التكلفة.
- تأمين صحي شامل يغطي احتياجاتهم الطبية دون معاناة مالية.
- تطبيق قوانين صارمة تضمن حقوق هذه الفئة وتحميهم من الإهمال والتهميش.
ميلاد ليس مجرد قصة فردية، بل هو نموذج يعكس واقع آلاف الأشخاص ذوي الإعاقة في ليبيا. استمرار تجاهل حقوقهم في دولة تمتلك ثروات طبيعية هائلة يعد أمرًا غير مقبول. آن الأوان لاتخاذ خطوات حقيقية تعيد لهم كرامتهم، وتوفر لهم حياة تليق بهم كمواطنين لهم حقوق لا تقل عن غيرهم، بما يتماشى مع التزامات ليبيا الدولية.