بينما كان العالم يُحيي اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة في الثالث من ديسمبر، لم تكتفِ جارتنا الشمالية، إيطاليا، بالاحتفالات البروتوكولية؛ بل أقدمت على خطوة عملية تضعنا في ليبيا أمام مرآة الواقع القاسي. فقد أعلنت وزيرة شؤون الإعاقة الإيطالية عن اعتماد "خطة وطنية" ضخمة بميزانية تناهز 380 مليون يورو.
الرقم مهول، لكن "الفلسفة" وراء الرقم هي الأهم. الهدف الإيطالي تجاوز فكرة "الصدقة الحكومية" أو الإعانات المقطوعة، لينتقل بجرأة نحو دعم مشاريع "الحياة المستقلة" وحماية حقوق "مقدمي الرعاية الأسرية".
هذا الخبر القادم من الضفة الأخرى للمتوسط ليس مجرد شأن إيطالي داخلي، بل هو جرس إنذار يقرع في أروقة صنع القرار في طرابلس، كاشفاً عن هوة تشريعية وتنظيمية سحيقة تفصلنا عن العالم، وحتى عن محيطنا الإقليمي.
من "الإعانة" إلى "الكرامة الاقتصادية"
لعل أبرز ما جاء في التصريحات الإيطالية هو العبارة المفتاحية: "الكرامة في العمل". هنا يكمن الفارق الجوهري في العقلية الإدارية. في روما، يتم ضخ الأموال لتحويل ذوي الإعاقة من فئة "مُتلقية" للمنافع، إلى فئة "منتجة" تساهم في الاقتصاد وتمتلك استقلاليتها المالية.
في المقابل، ما زلنا في ليبيا ندور في الحلقة المفرغة لـ "المنافع الاجتماعية التقليدية". سياساتنا لا تزال أسيرة لمفهوم الرعاية القديم، حيث ينتظر المواطن من ذوي الإعاقة إعانة مالية غالباً ما تتأخر، وأحياناً لا تكفي لسد الرمق، دون وجود رؤية استراتيجية واضحة لدمج هذه الطاقات المعطلة في سوق العمل، أو توفير بيئة تضمن لهم الاستقلال المادي والمعنوي.
"المعين المتفرغ".. الغائب الأكبر في التشريع الليبي
النقطة الأكثر إيلاماً في المقارنة هي قضية "مقدمي الرعاية". في إيطاليا، الأمر ليس مجرد وعود، بل هو واقع قانوني راسخ عبر "صندوق دعم مقدمي الرعاية الأسرية" الذي تأسس منذ ميزانية 2018 ويتم إعادة تمويله سنوياً لحماية حقوق العائلات.
تم تأسيس هذا الصندوق بموجب قانون الموازنة لعام 2018، ويتم إعادة تمويله سنوياً (على سبيل المثال، تم رصد مخصصات له في موازنات الأعوام 2021 و2024) لدعم العائلات التي ترعى أفراداً من ذوي الإعاقة أو كبار السن".
ولا نحتاج للذهاب بعيداً إلى أوروبا لنرى نماذج ناجحة، ففي العراق الشقيق، وتحديداً وفق المادة (19) من "قانون رعاية ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة رقم 38 لسنة 2013"، تكفلت الدولة بدفع راتب شهري لـ "المعين المتفرغ" يعادل راتب الحد الأدنى في سلم رواتب الموظفين، لضمان دخل ثابت يحفظ الكرامة.
وبصفتي من ذوي الإعاقة الشديدة التي تتطلب رعاية مستمرة على مدار الساعة، أدرك يقيناً أن وجود "المعين المتفرغ" هو طوق نجاة وليس رفاهية. ورغم أننا نحمد الله أننا نعيش في مجتمع يتميز بتكافل اجتماعي وروابط أسرية متينة، حيث تتكاتف العائلات وتتعاون فيما بينها ويساند الناس بعضهم البعض، وهذا ما يميز مجتمعاتنا العربية، إلا أن هذا الدعم العائلي والنبل الاجتماعي لا يُعفي الدولة من مسؤولياتها، ولا يمكن أن يكون بديلاً عن تشريعات ملزمة تضمن الحقوق وتصون الكرامة بعيداً عن تقلبات الظروف.
أما في ليبيا، فهذا التشريع "غير موجود" من الأساس في قاموسنا القانوني!
آلاف الأمهات والآباء والإخوة في ليبيا يفنون أعمارهم، ويتركون وظائفهم وطموحاتهم ليتفرغوا لرعاية ذويهم من ذوي الإعاقة الشديدة، دون أي تقدير مادي أو حماية اجتماعية من الدولة. هؤلاء "جنود مجهولون" يتحملون عبئاً تنوء به الجبال، بينما تقف الدولة موقف المتفرج. متى يتم استحداث نظام "المعين المتفرغ" لإنصاف هذه العائلات؟
القانون رقم (5).. إلى متى التجميد؟
إن الحديث عن هذه الفجوات يقودنا بالضرورة إلى القانون رقم (5) الخاص بفئة ذوي الإعاقة في ليبيا. هذا القانون، ورغم مرور سنوات على إقراره، لا يزال يعاني من شلل في التفعيل وتخبط في لائحته التنفيذية التي تحتاج إلى تحديث جذري يواكب المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية الحالية.
إن الخطوة الإيطالية يجب أن تكون دافعاً، لا محبطاً، للمسؤولين في ليبيا. نحن لا نطالب بالمستحيل، بل نطالب بحق مشروع:
- استحداث تشريع "المعين المتفرغ" فوراً لإنقاذ الأسر المستنزفة.
- تغيير فلسفة الدعم من مجرد "منح مالية" إلى برامج "تمكين وتشغيل" حقيقية.
- تفعيل وتحديث القانون رقم (5) ليكون مظلة حماية حقيقية لا مجرد حبر على ورق.
الملايين التي رصدتها إيطاليا هي استثمار في البشر، ونحن في ليبيا نمتلك الموارد، لكننا نفتقد "الإرادة التشريعية". فمتى تتحرك الأقلام لتوقيع القرارات الغائبة؟
