ندوة ليبيا الأحرار تكشف واقع ذوي الإعاقة: بين نصوص القانون وقسوة التهميش

 


متابعة: عبدالسلام شليبك 

في الوقت الذي يحتفل فيه العالم باليوم العالمي لذوي الإعاقة، ويستعرض فيه الدول ما حققته من إنجازات لدمج هذه الفئة، يحل هذا اليوم على ليبيا بطعم المرارة والخذلان. فبدلاً من أن يكون مناسبة للاحتفال، تحول إلى محطة لكشف المستور ومواجهة الواقع المؤلم. هذا ما كشفت عنه بوضوح ندوة "ذوو الإعاقة في ليبيا.. أين حقوقهم؟" التي بثتها قناة ليبيا الأحرار. وفي خطوة تُعد سابقة في تاريخ الإعلام الليبي، خصصت القناة يوماً كاملاً لتسليط الضوء على حقوق ذوي الإعاقة وقضاياهم، مما يعكس التزاماً إعلامياً غير مسبوق بكسر جدار الصمت حول معاناة هذه الشريحة. لم تكن الندوة مجرد فعالية بروتوكولية، بل كانت صرخة جماعية أطلقها رؤساء الجمعيات والمنظمات الحقوقية في وجه التهميش الممنهج. لقد سلطت الضوء على الفجوة الهائلة بين ما يُكتب في الدساتير والقوانين من شعارات براقة، وبين التطبيق الفعلي الذي يكاد يكون معدوماً على أرض الواقع، وسط غياب مستفز للمسؤولين الحكوميين الذين تركوا مقاعدهم شاغرة في يوم المساءلة.


واقع يومي مرير: معارك من أجل البقاء

لم يبالغ المشاركون في الندوة، ومن بينهم السيد فوزي الفاضلي رئيس جمعيه الخمس للمعاقين حركيا و السيد عبد السلام كرير رئيس جمعيه الخير لحقوق ذوي الاعاقه والسيد أحمد شليبك نائب رئيس منظمه ضمور العضلات  والسيد عبد الرحمن غريره منظمه العصا البيضاء لحقوق ذوي الاعاقه البصريه، حين وصفوا حياة ذوي الإعاقة في ليبيا بأنها "سلسلة من المعارك اليومية". الواقع يتجاوز مجرد الصعوبات؛ إنه إقصاء مكاني ونفسي كامل.

التحديات تبدأ من عتبة المنزل. البنية التحتية في ليبيا معادية تماماً لحركة ذوي الإعاقة؛ فلا وجود لممرات خاصة (رمبات) في معظم المؤسسات الحكومية والخدمية. ضرب المتحدثون أمثلة حية تدمي القلب، مثل معاناة المعاق حركياً عند محاولة دخول المصارف لاستلام معاشه الزهيد في ظل أزمات السيولة والزحام الخانق، حيث لا توجد مسارات ذات أولوية ولا مداخل مهيأة، مما يضطره للانتظار لساعات أو الاعتماد على مساعدة الآخرين، مما يجرح كرامته واستقلاليته.

حتى قطاع المواصلات لم يسلم من هذا التمييز، حيث يواجه ذوو الإعاقة رفضاً من بعض سائقي وسائل النقل العام، أو نظرات استهجان تشكك في قدرتهم حتى على قيادة سياراتهم الخاصة المعدلة، وكأن وجودهم في الفضاء العام "خطر" أو عبء يجب إخفاؤه.

التعليم والتوظيف: طاقات مهدرة وحقوق معطلة

لعل أخطر ما طُرح في الندوة هو ملف التعليم، حيث أشار المتحدثون إلى أرقام مفزعة تؤكد أن ما يقارب 70% إلى 80% من ذوي الإعاقة في ليبيا محرومون من حقهم الأساسي في التعليم. هذه النسبة الكارثية ليست نتاج عجز عقلي أو جسدي لدى الطلاب، بل هي نتيجة لسياسة "التنصل من المسؤولية" التي يتبعها الكثير من مدراء المدارس، الذين يرفضون قبول هؤلاء الطلاب بحجة عدم توفر الإمكانيات أو "عدم القدرة على تحمل مسؤوليتهم"، في انتهاك صارخ لحقهم الدستوري.

واستذكر أحد المتحدثين بتأثر بالغ كيف كانت والدته تحمله على ظهرها يومياً لإيصاله إلى الفصل الدراسي وتعود لأخذه، في غياب تام لأي دعم حكومي، مما يبرز دور العائلة كخط دفاع وحيد في وجه تخلي الدولة.

أما في ملف التوظيف، فرغم أن القانون الليبي (القانون رقم 5 لسنة 1987) كان سباقاً في كفالة نسبة 5% من الوظائف العامة لهذه الفئة، إلا أن هذا النص بقي حبيس الأدراج. هناك آلاف الخريجين من ذوي الإعاقة، بينهم حملة ماجستير ودكتوراه، يجلسون في بيوتهم بلا عمل، بينما تُهدر طاقاتهم التي قد تفوق في إنتاجيتها والتزامها طاقات الأصحاء، بسبب نظرة قاصرة تحصرهم في خانة "العجز" وتتجاهل عقولهم النيرة.

الأزمة المالية: بين شح المعاشات وفساد المنح

أثار ملف "الإعانة المنزلية" والمعاشات الأساسية غضباً واسعاً وجدلاً كبيراً خلال الندوة. أوضح الضيوف أن المعاش الأساسي الذي يبلغ 650 ديناراً (أو 900 للمتزوج) يعتبر مبلغاً هزيلاً لا يكفي لتغطية مصاريف الطعام والشراب لأيام معدودة في ظل التضخم وغلاء المعيشة، فما بالك بتكاليف العلاج الباهظة، والمعدات الطبية، وصيانة الكراسي المتحركة التي لا تتوفر لها ورش صيانة متخصصة في البلاد.

وتعمق النقاش حول أزمة "الإعانة المنزلية" المتوقفة منذ سنوات (تراكمت الديون منذ 2018)، حيث يتقاذف صندوق التضامن الاجتماعي ووزارة المالية المسؤولية. الصندوق يدعي عدم تحويل المخصصات، بينما تكشف تقارير وزارة المالية عن وجود فائض في ميزانية الصندوق يتجاوز 2 مليار دينار، مما يضع علامات استفهام كبيرة حول إدارة هذه الأموال.

كما تم التطرق لفساد شاب ملف "سيارات ذوي الإعاقة"، حيث حُرم منها مستحقوها من ذوي الإعاقات الشديدة، بينما تحصل عليها أشخاص بإعاقات بسيطة جداً (مثل بتر إصبع!)، بل وطُلب من المستحقين دفع مبالغ تصل لـ 40 ألف دينار (نصف ثمن السيارة)، وهو مبلغ خيالي لشخص يعيش على الكفاف.

الرياضة والتمثيل السياسي: إقصاء من المشهد

لم يقتصر التهميش على الجوانب المعيشية، بل طال الجوانب الرياضية والسياسية. تحدث الرياضيون بمرارة عن احتكار المناصب في اللجنة البارالمبية من قبل شخصيات لم تتغير منذ التسعينات، وعن رياضيين حققوا قلائد ذهبية عالمية لليبيا (مثل بطل رفع الأثقال في تركيا) ومع ذلك اضطروا للاستجداء للحصول على تذاكر السفر وتغطية نفقات المشاركة.

سياسياً، يغيب ذوو الإعاقة تماماً عن قبة البرلمان والمجالس البلدية ومراكز صنع القرار. وبينما نجحت المرأة الليبية في انتزاع "كوتا" تمثيلية، لا يزال ذوو الإعاقة يفتقرون لصوت يمثلهم داخل أروقة السلطة التشريعية ليطالب بتعديل القوانين التي عفى عليها الزمن.

غياب المسؤولين: رسالة صمت مدوية

لعل النقطة الأكثر إيلاماً ودلالة التي أثيرت في الندوة هي غياب كافة الجهات الرسمية المدعوة (وزارة الشؤون الاجتماعية، وزارة المالية، صندوق التضامن، وزارة الصحة) عن الحضور. هذا الغياب الجماعي فُسّر من قبل المشاركين ليس كانشغال، بل كرسالة عدم اكتراث، وهروب من المواجهة، ودليل إضافي على أن قضايا هذه الشريحة لا تقع ضمن أولويات الحكومة الحالية، مما يعمق الشعور بالاغتراب داخل الوطن.

رسالة إلى المجتمع: نحن أصحاب حقوق لا متسولين

اختتم المشاركون حديثهم برسائل قوية ومؤثرة، موجهة للمسؤولين والمجتمع على حد سواء. الرسالة الجوهرية كانت: "كفى استعطافاً". ذوو الإعاقة لا يطلبون صدقة ولا شفقة، بل يطالبون بحقوقهم المدنية والسياسية والاقتصادية كمواطنين كاملي الأهلية وشبكات للأمان الاجتماعي تضمن كرامتهم.

كما وجهوا نداءً حاراً للأهالي والعائلات الليبية بعدم الخجل من أبنائهم أو عزلهم، بل الاستثمار في تعليمهم ودمجهم، مؤكدين أن الإعاقة الحقيقية ليست في الجسد، بل في ضمير المسؤول الذي ينام ملء جفونه بينما يقف المعاقون، بمن فيهم مرضى ضمور العضلات، على قارعة الطريق يطلبون حقهم في الحياة.

ندوة كامله 👇

أحدث أقدم

 

نموذج الاتصال