24 ديسمبر، ليس مجرد تاريخ في تقويم، ولا مجرد عطلة رسمية تمر عابرة. إنه اليوم الذي وقف فيه الملك إدريس السنوسي -رحمه الله- في شرفة قصر المنار ببنغازي عام 1951، ليعلن للعالم ولادة "المملكة الليبية المتحدة". في ذلك اليوم، وُلد أمل، وتوجت دماء الشهداء وتضحيات المجاهدين بنصرٍ مستحيل.
ولكن، في ظل الحادثة الأليمة التي أودت بحياة شخصيات قيادية، تأتي ذكرى الاستقلال هذا العام مثقلةً بالوجع، ومحملةً بتساؤلات لا يمكن القفز فوقها. هنا، يعود صدى نشيدنا الوطني ليقرع الآذان والضمائر:
"لن أعود للقيود.. قد تحررت وحررت الوجود"
هل نحن حقاً بلا قيود؟ أم أن "القيود" اليوم تتخفى في شكل غموض، وإهمال، وتبعية؟ إن احترام دماء من فقدناهم، واحترام هذا الوطن في يوم عيده، يقتضي منا شجاعة طرح الأسئلة الصعبة.
أسئلة مشروعة.. بانتظار الحقيقة
إن "فك القيود" يعني الشفافية، ويعني أن يملك الليبيون حق معرفة ما يجري لقادتهم ومقدراتهم. الأسئلة التي يطرحها الشارع الليبي اليوم ليست مجرد فضول، بل هي جوهر السيادة الوطنية:
1. قيود التبعية اللوجستية والأمنية: من نأمن على أرواحنا؟
كيف لدولة ذات سيادة، تحتفل باستقلالها، أن تعجز عن تأمين طائرات وطنية لقادتها؟ هل يُعقل -على سبيل المثال- أن نتخيل رئيس أركان جيش أمريكي يستأجر طائرة مجهولة من جزر البهاما لتنقلاته الرسمية؟ المفارقة هنا ليست في الطائرة، بل في كرامة الدولة وسيادتها.
ولعل الكارثة الحقيقية تتكشف عند النظر في سجل الشركة المشغلة "Harmony Jets"، وهنا تصرخ الأسئلة في وجه المسؤولين:
من تعاقد مع "شركة الشبهات"؟ تشير التقارير إلى أن شركة Harmony Jets (مقرها مالطا) ليست مجرد شركة تأجير عادية، بل هي كيان مثقل بالاتهامات الدولية. كيف يُسمح لشركة ورد ذكرها في تقارير الأمم المتحدة (ديسمبر 2024) بانتهاك حظر التسليح ونقل مرتزقة أجانب إلى ليبيا، أن تتولى نقل أعلى رأس في الهرم العسكري الليبي؟
أمن القادة أم تجارة رخيصة؟ الطائرة المنكوبة (Falcon 50 برقم تسجيل 9H-DFS) لها سجل أسود؛ فقد احتجزتها السلطات الفرنسية سابقاً في ليون لمدة 5 أشهر بشبهة نقل بضائع عسكرية غير مشروعة. والأدهى، وجود تقارير عن تعاطي أطقم الشركة للمخدرات (حادثة إيبيزا 2024). فكيف مرت هذه السجلات الأمنية الكارثية دون تدقيق من الجانب الليبي؟
شبهات الفساد: الشركة مسجلة في قوائم (BLACKLIST.AERO) كشركة متعثرة وتمارس الاحتيال في العقود. هل تمت مراجعة الجوانب المالية لهذا التعاقد؟ وهل نحن أمام حالة فساد إداري فضّلت "الرخص" أو "العلاقات المشبوهة" على أمن وسلامة قيادات الوطن؟
هذه ليست مجرد تفاصيل فنية، بل هي قيود تكبل هيبة الدولة وتضع علامات استفهام حول "الاستقلال" في أبسط صوره: القدرة على اختيار من نأمنهم على أرواحنا.
2. قيود السياسة والارتهان للخارج
الاستقلال الحقيقي هو استقلال القرار. وفي ظل الحديث عن اجتماع أنقرة، تبرز مخاوف من أن تكون قراراتنا مرهونة بحسابات غير ليبية:
ما الذي دار في أنقرة؟ وكيف كان موقف الوفد الليبي من تمديد البرلمان التركي لتواجد قواته؟
هل للحادثة ارتباط بملفات توحيد المؤسسة العسكرية أو تشكيل حكومة موحدة؟
هل تتقاطع هذه المأساة مع ترتيبات "التوافق السياسي" التي أُشيعت داخل أروقة وزارة الدفاع؟
إن "لن أعود للقيود" تعني ألا يكون مصيرنا معلقاً بقرارات تتخذ خارج حدودنا، وألا تكون تحركات قادتنا جزءاً من حسابات إقليمية غامضة.
3. استحقاق المستقبل: من يدير الدفة؟
السؤال الأكثر إلحاحاً يتعلق بمستقبل المؤسسة العسكرية، صمام أمان الاستقلال:
من سيتولى الإدارة؟ وبأي آلية قانونية وزمنية؟
الحقيقة هي الاستقلال
هذه الأسئلة لا تعني استباق النتائج أو توجيه الاتهام، بل هي ممارسة فعلية للمواطنة الحقة. إن الدولة المستقلة هي التي:
تحترم مؤسساتها: فلا تسلم رقاب قادتها لشركات مشبوهة ومتورطة في صراعاتها الداخلية.
تصون قياداتها: بتوفير أقصى درجات التأمين والتدقيق الأمني المسبق (Vetting) لكل من يقترب من دوائر القرار.
تتعلم من أخطائها: حتى لا تتكرر المآسي، وحتى لا يصبح الفساد هو "القيد" الذي يقتلنا.
كلمة "لن أعود للقيود" اليوم تعني "لن أعود للصمت". تعني المطالبة بكشف الحقيقة كاملة، بعيداً عن التوظيف السياسي أو الشائعات.
في ذكرى الاستقلال، أفضل تكريم للوطن ولدماء من رحلوا هو أن نتحرر من قيود الغموض، وأن نثبت أن أرواح الليبيين ليست تفصيلاً عابراً، وأن سيادة ليبيا فوق كل اعتبار.
رحم الله الجميع، وحفظ الله ليبيا حرة، مستقلة، تملك قرارها وتعرف حقيقتها.
لن أعود
للقيود
"لقد تحررت وحررت الوجود"
كلمات رددها الأجداد.. ويبحث عنها الأحفاد
بين ركام الطائرات وأروقة الفساد.
ملف مفتوح: حادثة Falcon 50
أسئلة الدم والسيادة
من المسؤول عن استئجار "طائرة الموت"؟
شركة Harmony Jets
شركة مالطية وردت في تقارير الأمم المتحدة لنقلها المرتزقة وانتهاك حظر السلاح. كيف تم التعاقد معها؟
السجل الأسود للطائرة
الطائرة 9H-DFS احتجزت سابقاً في فرنسا بشبهات نقل بضائع عسكرية. أين التدقيق الأمني؟
شبهات الفساد
الشركة مصنفة في القوائم السوداء للاحتيال (BLACKLIST.AERO) وطاقمها متهم بتعاطي المخدرات.
دعوة للمساءلة
الحقيقة حق وطني