يُشكل "الحوار المُهيكل"، الذي أطلقته بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، منعطفاً مفصلياً في مسار الأزمة الليبية، ومحطة تأسيسية ضمن خارطة الطريق المعلنة في 21 أغسطس 2025. وتهدف هذه المبادرة إلى كسر الجمود السياسي، وتهيئة المناخ لإجراء انتخابات وطنية شاملة، وإنهاء دوامات الصراع المتجددة، وصولاً إلى صياغة توافق وطني مستدام.
ويستمد هذا المسار شرعيته الدولية من قرار مجلس الأمن رقم 2796 لسنة 2025، الذي فوّض البعثة الأممية برعاية عملية سياسية جامعة، تضمن انخراط كافة أطياف المجتمع الليبي في صناعة القرار، متجاوزة بذلك النخب السياسية التقليدية لتشمل فئات لطالما غُيّبت عن المشهد، وفي مقدمتها الأشخاص ذوو الإعاقة.
محاور الحوار الأربعة: مقاربة حقوقية شاملة
وفقاً للإطار العام للحوار، تتوزع النقاشات على أربعة مسارات استراتيجية تمس جوهر الدولة، وتتقاطع جميعها بشكل مباشر مع حقوق وتطلعات الأشخاص ذوي الإعاقة:
1. المسار السياسي والحوكمة
يركز هذا المحور على توحيد السلطة التنفيذية، وترسيخ اللامركزية، والاتفاق على القاعدة الدستورية. وتبرز هنا أهمية مشاركة ذوي الإعاقة لضمان "دسترة" حقوقهم، والتأكيد على مبادئ عدم التمييز وتكافؤ الفرص في بنية النظام السياسي الوليد.
2. المسار الاقتصادي
بينما يناقش هذا الملف قضايا شائكة كتوحيد المؤسسات المالية، ومكافحة الفساد، والعدالة في توزيع الثروة؛ فإنه يمثل فرصة سانحة لربط الإصلاح الاقتصادي بالعدالة الاجتماعية، وضمان نفاذ الأشخاص ذوي الإعاقة إلى سوق العمل، وتأمين شبكات حماية اجتماعية فاعلة تضمن لهم العيش الكريم.
3. المسار الأمني
يُعنى بملفات توحيد المؤسسة العسكرية وتأمين العملية الانتخابية. ونظراً لأن الأشخاص ذوي الإعاقة هم الحلقة الأضعف والأكثر تضرراً في أوقات النزاع، فإن مشاركتهم في صياغة السياسات الأمنية تعد ضرورة لضمان حمايتهم وتلبية احتياجاتهم الخاصة في حالات الطوارئ.
4. مسار المصالحة وحقوق الإنسان
يُعد هذا المحور الحاضنة الأخلاقية والقانونية لملف الإعاقة، حيث يركز على العدالة الانتقالية وسيادة القانون. ويمثل هذا المسار فرصة لترسيخ حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة كجزء لا يتجزأ من منظومة حقوق الإنسان في ليبيا، تماشياً مع الالتزامات الدولية.
التمثيل: خطوة تاريخية ومحاذير مشروعة
رغم أن القائمة النهائية للمشاركين في الحوار ضمت 120 شخصية وطنية، إلا أن حصة الأشخاص ذوي الإعاقة اقتصرت على خمسة مقاعد فقط. ورغم أن هذا العدد قد يبدو متواضعاً عددياً ولا يعكس الثقل الديموغرافي لهذه الشريحة، إلا أنه يمثل سياسياً اختراقاً نوعياً؛ إذ أنها المرة الأولى التي يتم فيها مأسسة حضورهم بشكل واضح في مسار سياسي رفيع المستوى.
قائمة الممثلين عن شريحة ذوي الإعاقة وتوزيعهم على مجموعات العمل:
يتحمل الأعضاء الخمسة مسؤولية تاريخية تتجاوز تمثيل مناطقهم الجغرافية، لتشمل التعبير عن تطلعات شريحة واسعة ومتنوعة الإعاقات والاحتياجات، وقد تم توزيعهم على مجموعات الحوار كالتالي:
مجموعة حوار المصالحة وحقوق الإنسان:
- محمد خالد عصمان (إعاقة بصرية).
- زينب محمود أذياب (إعاقة حركية).
مجموعة حوار الجانب الاقتصادي:
3. هيثم علي محمد (إعاقة سمعية).
مجموعة حوار جانب الأمن: 4. د.ليلى الفيتوري بدة (إعاقة حركية).
مجموعة حوار الحوكمة: 5. د.ليلى علي الأوجلي (إعاقة حركية).
بين الدعم والنقد البناء
إن الترحيب بانطلاق هذا الحوار لا ينفي الحاجة إلى نظرة نقدية فاحصة؛ فمحدودية التمثيل (5 من أصل 120) واختلال التوزيع الجغرافي ونوع الإعاقة، يطرح تساؤلات جدية حول آليات الاختيار. يتطلب المستقبل الانتقال من "رمزية الحضور" إلى "فاعلية التأثير"، لضمان ألا تكون المشاركة مجرد ديكور سياسي لتجميل المشهد، بل قوة فاعلة في صياغة التوصيات والتشريعات.
نحو عقد اجتماعي دامج
يضع الحوار المُهيكل الدولة الليبية أمام اختبار حقيقي لإعادة صياغة عقدها الاجتماعي. إن نجاح هذا المسار لا يُقاس فقط بالوصول إلى الانتخابات، بل بقدرته على إنتاج نظام سياسي يرى في الأشخاص ذوي الإعاقة شركاء أصيلين في بناء الوطن، وليس مجرد فئة تتلقى الرعاية. إنها فرصة تاريخية لتحويل الإعاقة من ملف "إنساني وإغاثي" إلى ملف "حقوقي وسياسي" بامتياز.

