خلال فترة وجيزة لا تتعدى الأسبوعين، عاشت العاصمة الليبية مشهدين متناقضين يختزلان، بقسوة ووضوح، أزمة إدارة الأولويات والمال العام في البلاد. مفارقة جمعت بين عالمين متوازيين لا يلتقيان رغم قصر المدة الزمنية بينهما: عالم يضج بالتصفيق والأضواء، وعالم يختنق بالألم والانتظار.
مفارقة السكة والقاعات الفاخرة
على طريق السكة، القلب الحيوي للعاصمة، لم يكن الازدحام هذه المرة نتاجاً لساعات الذروة المعتادة، بل كان توقفاً اضطرارياً فرضه الألم. هناك، افترش مرضى "ضمور العضلات" وذووهم الأرض، وبينهم من ألزمته كراسيه المتحركة مكانه ويكاد يعجز عن الحركة الطبيعية، مغلقين الطريق بأجسادهم المنهكة، في صرخة يائسة أخيرة بعد أن بحّت أصواتهم في أروقة المكاتب الحكومية. هؤلاء المواطنون لم يخرجوا هوايةً في التعطيل، بل لأن خيار "الانتظار" بات مرادفاً للموت البطيء في ظل غياب الأدوية والمستلزمات الطبية، وتلاشي الوعود الرسمية التي لم تتجاوز حبر البيانات.
وفي الضفة الأخرى من المشهد، وبفارق زمني بسيط، كانت العاصمة نفسها تحتفي بختام "ملتقى الإعلام الليبي". هناك، كانت الصورة مغايرة تماماً: سجاد أحمر، وفود عربية وأجنبية، جوائز تُوزع، وابتسامات عريضة توثقها عدسات الكاميرات، وسط إنفاق حكومي سخي يهدف لتصدير صورة "براقة" عن الدولة ومؤسساتها.
تجميل الواجهة.. وتجاهل الأساس
يطرح هذا التتابع للأحداث سؤالاً أخلاقياً وسياسياً لا يمكن القفز عليه: هل تكمن أولوية الحكومة اليوم في تلميع صورتها الإعلامية عبر الملتقيات والاحتفالات، أم في إنقاذ أرواح مواطنيها الذين يصارعون المرض بلا سلاح؟
إن تخصيص ميزانيات ضخمة لاستضافة "الإعلاميين" وصنّاع المحتوى، والاحتفاء بالوفود الخارجية، في وقت تعجز فيه نفس الحكومة عن توفير "حقنة" علاج لمريض يذوي عضلاته يوماً بعد يوم، ليس مجرد سوء إدارة، بل هو خلل بنيوي في منظومة القيم التي تحكم صناعة القرار. فكيف لحكومة الوحدة الوطنية، ولجهاز دعم وتطوير الخدمات العلاجية برئاسة أحمد مليطان، أن يبرروا هذا التناقض؟ كيف يمكن بناء "صورة ذهنية" إيجابية للدولة بينما يرى العالم مواطني هذه الدولة يتوسلون حقهم الدستوري والإنساني في الحياة؟
صمت القصور وصخب الشارع
الأكثر إيلاماً من المرض نفسه، هو الصمت الرسمي المطبق. فحتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يصدر أي تفاعل حقيقي يوازي حجم الكارثة الإنسانية لمرضى الضمور. هذا التجاهل يعكس إما انفصالاً تاماً عن الواقع، أو هروباً متعمداً من المسؤولية، وكلاهما يضرب في مقتل ما تبقى من ثقة بين المواطن ومؤسساته.
المال العام أمانة لا "زينة"
لا أحد يعترض على دعم الإعلام أو الثقافة، فهما جزء من بناء الدولة الحديثة. ولكن، حين توضع كفّة "المظهر" في مواجهة كفّة "الروح البشرية"، فإن أي ميزان عادل يجب أن يميل للحياة. إن الدولة التي تنفق بسخاء على "البريستيج" وتتقشف في "صحة" أبنائها، هي دولة تلمّع جدران منزل آيل للسقوط.
ومع كامل الاحترام للإعلاميين العرب الذين أتوا إلى طرابلس، فإن زيارتهم لم تكن حباً خالصاً فينا بقدر ما كانت عقوداً مدفوعة الثمن. نتحدث عن مبالغ ضخمة تتراوح ما بين 80 ألف دولار وتقترب في بعض التقديرات من المليون في غضون يومين فقط، ناهيك عن تكاليف الاستقبال بالمراسم الرسمية والإقامة الفاخرة لمدة ثلاثة أيام. أليس هذا كله من خزينة المال العام؟ ومن الذي امتلك الحق في تخويل صرف هذه الأموال بهذا السخاء في وقت الشدة؟
ستنطفئ أضواء الملتقيات الإعلامية، وسيغادر الضيوف محملين بالهدايا والذكريات الجميلة، لكن "صرخة طريق السكة" ستظل تدوي، شاهدةً على زمن صار فيه تجميل الصورة أهم من بقاء الإنسان.
