رسوم BBC: الحقائق الكاملة وراء الجدل السياسي وأزمة التمويل

 


أثارت تصريحات سابقة لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق، بوريس جونسون، جدلاً واسعاً حول نظام رسوم ترخيص BBC، وهو ما يستدعي تدقيقاً مفصلاً للحقائق المحيطة بهذه التصريحات ولطبيعة تمويل البث العام في بريطانيا. بعد فحص دقيق، يتبين أن العديد من التفاصيل المتداولة تحتاج إلى تصحيح، بدءاً من الادعاء بأن جونسون أعلن شخصياً توقفه عن دفع الرسوم.

في الواقع، لم يصدر عن جونسون أي تصريح يؤكد توقفه شخصياً عن الدفع. ما حدث هو أنه خلال حملته الانتخابية في 2019، أشار إلى أنه "يفكر في" إصلاح أو إلغاء نظام الرسوم، بل وناقش إمكانية إلغاء التجريم الجنائي لعدم الدفع. كان هذا موقفاً سياسياً يهدف لمراجعة النظام، وليس إعلاناً فردياً بالعصيان المدني. هذا الجدل يسلط الضوء على رسوم الترخيص التي تُعد المصدر الرئيسي لتمويل BBC، حيث وفرت أكثر من 3.6 مليار جنيه إسترليني في عام 2024، أي حوالي 75% من إجمالي إيراداتها.

من المهم أيضاً تصحيح المفهوم الشائع حول من هو الملزم بالدفع. على عكس الاعتقاد بأن "كل من يملك تلفازاً" يجب أن يدفع، فإن القانون البريطاني يربط الالتزام حصراً بـ "مشاهدة البث المباشر" على أي قناة، أو استخدام خدمة "BBC iPlayer". بالتالي، فإن امتلاك جهاز تلفاز واستخدامه فقط لخدمات البث غير المباشر مثل Netflix لا يتطلب رخصة. وفيما يخص العقوبات، فإن الغرامة القصوى لعدم الدفع تصل بالفعل إلى 1,000 جنيه إسترليني، مع إمكانية السجن في حال عدم سداد الغرامة التي تقررها المحكمة، وليس بسبب عدم دفع الرسم نفسه.

تأتي تصريحات جونسون أيضاً في سياق اتهامه لـ BBC بفقدان الحياد، حيث زعمت حكومته في 2019 أن الهيئة "تتحدث إلى فقاعة حضرية" معينة. وجدير بالذكر أن الجهة المسؤولة عن تنظيم محتوى BBC وضمان حياده هي هيئة "أوفكوم" (Ofcom)، التي أصبحت المنظم الخارجي المستقل الأول للهيئة في عام 2017. ومع ذلك، لا تملك "أوفكوم" سلطة تحديد قيمة رسوم الترخيص، فهذه مسألة تبقى في يد الحكومة. هذا الانتقاد، رغم كونه دقيقاً من حيث النقل، يُنظر إليه على نطاق واسع كهجوم سياسي. وتُظهر استطلاعات حديثة أن ثقة الجمهور في استقلالية BBC عن الحكومة قد تراجعت، حيث لا تتجاوز 43%. ويبدو أن هذا التوتر لم ينتهِ، إذ ظهرت مخاوف جديدة في أواخر 2025 داخل الهيئة من أن جونسون يسعى لتقويض قيادتها بشكل فعال، مما يشير إلى أن الصراع بينه وبين المؤسسة لا يزال مستمراً.


عند النظر إلى السياق العالمي، يتضح أن نظام الرسوم المباشرة الذي تتبعه بريطانيا ليس هو النموذج السائد. معظم الدول الأوروبية ألغت هذا النظام، متجهة نحو بدائل مثل التمويل المباشر من الضرائب العامة (كما في فرنسا وألمانيا) أو فرض ضريبة شهرية ثابتة على كل أسرة (كما في النمسا). من بين 31 دولة أوروبية، فقط 14 لا تزال تستخدم نظام الرسوم المباشرة، ما يجعل الرسم البريطاني، الذي ارتفع إلى 174.50 جنيهاً إسترلينياً سنوياً (للتلفاز الملون) اعتباراً من أبريل 2025، من بين الأعلى في أوروبا، وتحديداً الثالث بعد سويسرا وألمانيا. أما في الدول العربية، فالوضع مختلف، حيث تموَّل القنوات الرسمية عادةً بشكل مباشر من الميزانية العامة للدولة وليس من رسوم مفروضة على المواطنين، وهو نموذج يثير نقاشات عالمية حول مدى استقلالية المحتوى عن التوجهات الحكومية.

تواجه BBC حالياً أزمة تمويل عميقة تتجاوز الجدل السياسي. فقد انخفض عدد الأسر الدافعة للرسوم إلى 23.8 مليون، ووصل معدل التهرب إلى 12.5%، بالإضافة إلى إعلان 3.6 مليون أسرة رسمياً أنها ليست بحاجة إلى رخصة. هذه العوامل مجتمعة تسببت في خسارة إيرادات تتجاوز 1.1 مليار جنيه إسترليني سنوياً، وهو ما يضع ضغوطاً هائلة على الهيئة رغم تكثيفها لزيارات التحصيل، والتي غالباً ما تواجه صعوبات في ظل تراجع تجاوب الجمهور.

في الختام، يتضح أن الجدل حول رسوم BBC معقد ومتشابك. فبينما كانت بعض التصريحات السياسية، مثل تلك المنسوبة لجونسون، غير دقيقة في تفاصيلها التاريخية، إلا أنها تعكس صراعاً سياسياً مستمراً ونقاشاً حقيقياً وعميقاً حول مستقبل تمويل البث العام في بريطانيا، خاصة في ظل التحديات المالية الكبيرة والتحولات في أنماط المشاهدة والأنظمة المطبقة عالمياً.


أحدث أقدم

 

نموذج الاتصال