في أجواء هادئة وبلا حوادث تُذكر، حسم نادي الأهلي طرابلس لقب الدوري الليبي لكرة القدم بعد فوزه في المباراة النهائية لسداسي التتويج التي أُقيمت في مدينة ميدا الإيطالية، ليضيف إنجازًا جديدًا لتاريخه الكروي.البطولة التي شهدت في بدايتها توترات ومشاحنات، انتهت بمشهد رياضي منظم بحضور جماهيري لافت، وسط إجراءات أمنية مشددة. اختيار إيطاليا لاحتضان سداسي التتويج جاء كحل بديل بعد صعوبات تنظيم المباريات في ليبيا.، كان هناك صوت آخر يعلو في الخلفية، صوت لم يأتِ من مدرجات المشجعين بل من صفحات الصحف العالمية المرموقة. كان هذا الصوت يروي حكاية مختلفة تمامًا عن احتفالات الألعاب النارية، حكاية كشفت أن نقل "سداسي التتويج" إلى مدينة ميلانو لم يكن حلاً سحريًا لمشاكل الكرة الليبية، بل كان بمثابة مرآة عكست أزمات البلاد السياسية والأمنية على مسرح دولي، وأعطى انطباعًا سلبيًا للغاية. فما بدا كحل مؤقت للخلافات الداخلية، تحوّل إلى فضيحة إعلامية وسياسية بامتياز.
الصورة الرسمية في مواجهة الواقع الصادم
قبل انطلاق البطولة، صرح رئيس الاتحاد الليبي لكرة القدم بأن إقامة مباريات سداسي التتويج خارج ليبيا تعطي انطباعًا بأن الوضع في البلاد "بخير"، وأنها تعكس ثقة في استقرار الأوضاع الأمنية. كان هذا التصريح بمثابة محاولة لرسم صورة إيجابية عن ليبيا، وإظهار قدرتها على تنظيم فعاليات رياضية كبرى حتى لو كان ذلك على أرض محايدة.
لكن، وما إن بدأت المباريات، حتى تحولت هذه الرواية الرسمية إلى مجرد حبر على ورق. فالواقع الذي رصدته الصحف الإيطالية والغربية كان مختلفًا تمامًا، حيث لم تكن البطولة مرآة للاستقرار بل كانت شهادة حية على الفوضى والتوترات والانقسامات التي حاولت ليبيا إخفاءها. لقد أثبتت التجربة أن المشاكل الأمنية والإدارية لم تُحل بنقل المباريات إلى الخارج، بل تم تصديرها إلى العالم.
الصورة القاتمة التي رسمها الإعلام الإيطالي والغربي
بينما كانت الفرق الليبية تتنافس على اللقب، كان الإعلام الإيطالي والغربي يراقب عن كثب، ولكن ليس بعيون رياضية بحتة. فالتقارير من صحف مثل Gazzetta.it وLa Repubblica، بالإضافة إلى مقال من New York Times، لم تتحدث عن جمال اللعبة أو مهارة اللاعبين بقدر ما ركزت على الفوضى، والتوترات، والانقسامات التي رافقت البطولة.
وصفت تلك التقارير الملاعب الإيطالية التي استضافت المباريات بأنها "تحولت إلى مسرح لمواجهة قمة بين الأهلي طرابلس والاتحاد"، وذكرت أن المباراة أقيمت خلف أبواب مغلقة، "بلا حضور جماهيري"، وبإجراءات أمنية "غير مسبوقة"، حيث انتشرت "قرابة 12 حافلة شرطة ووحدات من القوات الخاصة لتأمين الاستاد العتيق الذي بدا وكأنه قد مرّ بأيام أفضل". هذا الوصف، وحده، كافٍ لرسم صورة بلد يعاني من العنف، حيث تُنقل رياضته إلى بلد آخر ليس للاحتفاء بها، بل لحمايتها من ذاتها.
الفوضى المستوردة: العنف لا يعرف الحدود
كانت الحجة الأساسية لنقل البطولة هي تجنب المشاكل الأمنية التي تحدث داخل ليبيا. لكن ما كشفته التقارير الإعلامية كان مفاجئًا ومخيبًا للآمال: العنف والتوترات لم تبقَ في ليبيا، بل انتقلت مع الفرق والجمهور إلى إيطاليا.
شهدت البطولة "توترات كبيرة" بين جماهير الأندية وصلت إلى "مواجهات عنيفة" في محيط الملاعب الإيطالية، وتطلبت تدخل الشرطة لفض الاشتباكات. حتى على أرض الملعب، لم يكن الوضع أفضل حالًا، حيث اندلعت "اشتباكات عنيفة بين اللاعبين وأعضاء الطاقم الفني" في إحدى المباريات، وهو ما استدعى تدخل الشرطة المدججة بالدروع للفصل بينهم. وذهبت صحيفة Corriere della Sera إلى وصف إحدى الحوادث بـ"وقائع من نشرة حوادث أمنية" بعد أن أوقفت الشرطة وقوات الدرك (Carabinieri) إحدى المباريات لمنع تطور الأمور إلى اشتباك. بل إن أحد المسؤولين الرياضيين الإيطاليين اضطر إلى تحذير الفرق من أن أي اشتباك آخر سيُنهي اللقاء فورًا. هذه الأحداث لم تُظهر فقط فشل فكرة "الأرض المحايدة"، بل أكدت أن المشكلة أعمق بكثير من مجرد مكان إقامة المباراة.
رياضتنا أداة في يد السياسة الخارجية
ربما كان الجانب الأكثر إيلامًا في هذه التجربة هو التحوّل الواضح للرياضة الليبية إلى أداة سياسية. أشار تقرير صحيفة La Repubblica صراحة إلى أن تنظيم البطولة في إيطاليا يُعد "جزءًا من مسعى دبلوماسي لإيطاليا لاستعادة نفوذها في ليبيا"، وأن استضافة الدوري "تعتبر رسالة سياسية موجهة للطرفين، أكثر من كونها مجرد حدث رياضي".
هذا التسييس الصريح للكرة الليبية، يجرّدها من روحها التنافسية الخالصة ويجعلها مجرد ورقة مساومة في لعبة الأمم. كما أن الانقسام السياسي في ليبيا، بين حكومة في الغرب وقوات في الشرق، كان هو المحرك الأساسي لهذا التنظيم، مما يجعل الفوز بلقب الدوري لا يمثل انتصارًا رياضيًا خالصًا بقدر ما يمثل توازنًا سياسيًا مؤقتًا.
تكاليف باهظة وسمعة مهدرة
إلى جانب الانطباع السلبي الذي خلّفه الحدث، كانت هناك تكاليف باهظة أخرى. فقد أشار الإعلام إلى "التكلفة الكبيرة التي تتحملها الفرق من إقامة طويلة في ميلانو"، مما دفع بالاتحاد الليبي لكرة القدم إلى التفكير في تغيير صيغة البطولة للموسم المقبل. وقد أوضحت صحيفة Corriere della Sera أن التمويل كان يتم عبر شركة نفطية، تمر عبر شركة سويسرية، مما أضاف المزيد من الغموض حول خلفية هذا الحدث.
وكمدوّن مهتم بالشأن الرياضي، أرى أن هذا الإنفاق يمثل سوء إدارة صارخ للمال العام، إذ أن الرياضة الليبية تعتمد بشكل كامل على التمويل الحكومي. في ظل وجود أولويات وطنية أكثر إلحاحًا، فإن تخصيص موارد مالية ضخمة لحدث خارجي يثير تساؤلات جادة حول ترتيب الأولويات وحوكمة استخدام الأموال العامة في ليبيا.
لم تقتصر التكاليف على الجانب المالي فقط، بل امتدت إلى سمعة البطولة وسمعة ليبيا ككل. فالتأجيلات المثيرة للجدل بسبب غياب تقنية الـ VAR، نتيجة لخلافات مالية، أعطت صورة لإدارة فاشلة وغير احترافية، وهو ما يضع سمعة الأندية والبلاد في موقف محرج أمام العالم.
ورغم أن التتويج بلقب الدوري هو لحظة تاريخية لأي فريق، إلا أن إقامته في ميلانو كانت فكرة سيئة بكل المقاييس. لقد حوّلت لحظة رياضية كان يجب أن تكون فخرًا وطنيًا إلى مادة دسمة للإعلام العالمي ليسلط الضوء على انقسامات ليبيا، وفوضاها، وتكاليفها الباهظة. كان من الأجدر أن يتم التعامل مع المشاكل الأمنية والإدارية داخليًا، بدلًا من تصديرها إلى العالم، لتبقى كرة القدم الليبية في بيتها، وتحتضن جماهيرها، مهما كانت التحديات.