بين الكرسي المتحرّك والآيفون: مفارقة ليبية تسطع في زمن الانحطاط السياسي

 


في مشهد يلخّص مأساة ليبيا الحديثة، وقف مرضى ضمور العضلات وذووهم أمام مقر حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس يوم 7 يوليو 2025، حاملين أجسادًا أنهكها المرض، ومطالبًا لا تتجاوز حدود الكرامة: كرسي متحرّك يساعدهم على الحياة. لا رواتب، لا مناصب، لا امتيازات. فقط، وسيلة نجاة.

جاءوا من مدن بعيدة، في عزّ حرّ الصيف، محمولين على أكتاف ذويهم لا على عاتق الدولة، وأملهم أن يجدوا أذنًا تسمعهم، أو قلبًا لا يزال ينبض بمسؤولية. لكن الأبواب بقيت مغلقة، والمسؤولون صامتون، والدولة كعادتها... غائبة.

في التوقيت ذاته، تسربت معلومات مؤكدة عن قيام رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة بتوزيع أجهزة "آيفون" وهدايا باهظة على صانعي محتوى محسوبين على منظومة التطبيل الرسمي، ضمن موجة دائمة من "تلميع الذات" بوسائل الرفاهية، على حساب من لا صوت لهم ولا منبر.

مفارقة لا تُصدّق... لكنها تحدث

بين من يطلب كرسيًّا متحرّكًا لا تتجاوز قيمته 1000 دينار، ومن يحصل على هاتف بعشرات أضعاف ذلك بدعوى "التأثير"، تتجلّى فداحة الانحراف السياسي والأخلاقي.

الكرسيّ المتحرّك هو باب لحياة تُستعاد.

الآيفون، في هذا السياق، مجرّد واجهة زائفة في يد مروّجي الخطاب الرسمي.


ليست هذه المفارقة مجرّد خلل إداري أو غلطة عابرة، بل سياسة ممنهجة:

  • تُفتح الأبواب للولاء وتُغلق أمام الألم.
  • تُشترى الأصوات المؤيدة وتُكسَر كرامة الضعفاء.
  • تُبنى الفقاعات الإعلامية وتُترك الأجساد تتآكل على أرصفة النسيان.


حكومة تُهندس الواقع على مقاس صورتها

حكومة عبد الحميد الدبيبة تُدير ليبيا كما تُدار حملة دعائية؛ لا برنامج، لا خطط استراتيجية، فقط رغبة في البقاء عبر الواجهة والبروباغندا. تمتلئ الشوارع بلوحات "الرؤية"، وتغيب تمامًا أبسط أدوات الرعاية، وكأن الدولة لا تعترف إلا بمن يطبل لها، أما من يتألمون... فلا مكان لهم حتى في بيانات العزاء.

تُصرف الملايين على المؤتمرات والكرنفالات، ويُترك أصحاب الإعاقات يبيعون الأمل مقابل فتات، إن وُجد. لا ميزانية لرعاية صحية متخصصة، لا قاعدة بيانات دقيقة للمرضى، لا آلية للاستجابة العاجلة، فقط صمت رسمي بارد، يوازيه صراخ شعبي بلا صدى.

ليسوا أرقامًا... بل أرواح منسية

ما حدث ليس مجرد احتجاج؛ بل شهادة حية على كيف تنظر الدولة لمن لا يملك الصوت.

إنهم يُذكّروننا أن الكرامة حق، لا منحة.

أن الاحتياج ليس ضعفًا، بل اختبار للإنسانية في من بيده القرار.

أن الكرسيّ المتحرّك، بالنسبة لمريض ضمور العضلات، ليس مجرد أداة؛ بل حياة تُنتشل من العزلة.


بين الترف والنجاة

الفرق بين "الآيفون" و"الكرسيّ المتحرّك" جوهري:

الأول يُشحن بالكهرباء... والثاني يُشحن بالأمل.

الأول أداة ترف... والثاني أداة بقاء.

الأول يُهدى لمن يخدم السلطة... والثاني يُحجب عمّن يُفترض أن ترعاهم الدولة.


الكلمة الأخيرة

ما حدث يُسجَّل لا كواقعة احتجاج، بل كوصمة في جبين سلطة فقدت حسّها الأخلاقي. دولة تستسهل شراء الصورة، وتتجاهل من يحتاجون حياة.


ولمن ما زال يعتقد أن الله غافل عن هذا الظلم، فليقرأ:

"ولا تحسبنّ الله غافلًا عمّا يعمل الظالمون، إنما يؤخّرهم ليوم تشخص فيه الأبصار."

(سورة إبراهيم، الآية 42)


📌 هذا المقال مستلهم جزئيًا من مقال الكاتب بوشناف الفرجاني: "بين الهواتف والكراسي المتحرّكة... حين يصبح الترف أولى من الحياة" (يوليو 2025)، والذي شكّل منطلقًا لإعادة قراءة المشهد من زاوية أوسع، تُبرز المفارقات الجارحة بين واجهة السلطة وواقع الإنسان الليبي المنسي.


أحدث أقدم

 

نموذج الاتصال