ليبيا بلا صحافة استقصائية: صمتٌ مريب عن الفساد الذي لا علاقة له بالسياسة



في الدول التي تحاول الخروج من الأزمات، تمثل الصحافة الاستقصائية وسيلة فعالة لكشف الحقيقة، ومحاسبة المسؤولين، وفرض الشفافية، لا باعتبارها سلطة رابعة فحسب، بل كأداة للعدالة المجتمعية. غير أن ليبيا، التي تتصدر سنويًا قوائم الدول الأكثر فسادًا بحسب تقارير منظمة الشفافية الدولية، لا تزال تفتقر إلى هذا النوع من الصحافة بشكل مقلق، لدرجة أن أبسط قضايا الفساد في قطاعات لا علاقة لها بالسياسة أو الأمن – تمرّ دون أي تحقيق صحفي يُذكر.

غياب لا يمكن تبريره بالوضع الأمني

كثيرًا ما يُستخدم الوضع الأمني في ليبيا كمبرر لضعف الصحافة الاستقصائية. لكن الواقع يقول شيئًا مختلفًا. هناك ملفات ضخمة، تمس حياة المواطن مباشرة، لا تتطلب من الصحفي أن يتحدى الميليشيات أو يكشف أسرار الدولة. ملفات مثل:

الفساد في قطاع الصحة: معدات طبية بملايين تُشترى ولا تُستخدم، أو لا تصل أصلًا. عقود صيانة مبالغ فيها. مرضى يتم إرسالهم للعلاج في الخارج بناء على تقارير مزوّرة، بينما يُترك أصحاب الحالات المستعصية في طوابير الانتظار بلا أمل.

الفساد في قطاع الرياضة: اتحادات تُدار بالولاءات، أموال عامة تُصرف على أندية وهمية أو مشاركات دولية لأشخاص لا علاقة لهم بالرياضة، ومجالس إدارات لا تخضع لأي رقابة فعلية.

هذه قضايا إدارية، تتعلق بالمال العام، وهي لا تحتاج إلا لصحفي يعرف كيف يقرأ وثيقة، يتتبع معلومة، ويعرضها بمهنية. ومع ذلك، لا تُطرح في الإعلام الليبي إلا بشكل عابر، في منشورات غضب على وسائل التواصل أو في صيغة "تسريبات" غير موثقة. فهل من المعقول ألا نجد صحفيًا واحدًا يشتغل على هذا النوع من القضايا بطريقة ممنهجة؟

أين الخلل؟ في الصحفي أم في المنظومة؟

لنكون منصفين، فإن الصحفي الليبي لا يتحمل وحده مسؤولية هذا الغياب. فالبيئة الإعلامية في ليبيا غير مهيأة أصلًا لظهور صحفي استقصائي محترف. من أبرز الإشكاليات:

ضعف التكوين المهني: أغلب الصحفيين لا يتلقون تدريبًا حقيقيًا في تقنيات التحقيق، ولا يتعلمون كيف يتعاملون مع الوثائق، أو يتحققون من البيانات.

غياب الحماية القانونية: لا توجد تشريعات واضحة تحمي الصحفي حين يتعامل مع قضايا فساد أو يحاور ضحايا الانتهاكات.

غياب الدعم المؤسسي: حتى المراكز الإعلامية والمبادرات التي تدّعي دعم "حرية الصحافة"، تركّز على المحتوى السطحي، أو السوشيال ميديا، أو صحافة السلام، وتتجنب دعم التحقيقات الجدية.

ثقافة الخوف والتواطؤ: في بعض الأحيان، ترفض وسائل الإعلام نفسها نشر تحقيقات حقيقية خوفًا من المساءلة، أو حفاظًا على علاقات مع أطراف نافذة.

وماذا عن وزارة الشؤون الاجتماعية وخطابها عن الإعاقة؟

في السنوات الأخيرة، اعتادت وزارة الشؤون الاجتماعية في ليبيا على الظهور في محافل دولية، سواء في اجتماعات الأمم المتحدة أو فعاليات حقوق الإنسان، لتقديم ما تصفه بتقارير "تقدمية" عن واقع الأشخاص ذوي الإعاقة في البلاد. وغالبًا ما تتحدث الوزيرة بلغة مشبعة بالمصطلحات الدولية مثل الدمج الشامل والتمكين والالتزام بالاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.

لكن ما لا يُقال أو ما يتم تجاهله تمامًا هو أن هذا الخطاب لا يعكس الحقيقة على الأرض. فالمراكز المتخصصة شبه مهملة، والمعينات الحركية لا تُوفر، والتعليم الدامج لا يزال غائبًا، والبطالة في صفوف الأشخاص ذوي الإعاقة في أعلى مستوياتها، والدعم الاجتماعي في تراجع.

 السؤال هنا مشروع ومُلِحّ:

من يتحقق من دقة هذه التصريحات أمام المجتمع الدولي؟

من يُراجع الأرقام التي تُعرض باسم الدولة الليبية؟

من يسأل: هل يعكس ما يُقال في نيويورك ما يحدث فعلًا في سبها أو بنغازي أو الزاوية أو غريان؟

الجواب المؤسف: لا أحد. لا توجد صحافة استقصائية تتتبع هذه الفجوة بين الخطاب والواقع. لا يوجد تحقيق صحفي واحد يستند إلى بيانات ميدانية لمقارنة ما تقوله الوزارة أمام المحافل الدولية، وما يعيشه الأشخاص ذوو الإعاقة في ليبيا يوميًا.

في بلد وقّع على اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة منذ عام 2008، واستضاف ورشات عمل بالتعاون مع منظمات أممية، لا يزال الكرسي المتحرك يُعتبر رفاهية، والمنحدر حلمًا، والتعليم الدامج مجرد شعار فارغ.

في هذه الحالة، لا يصبح غياب الصحافة الاستقصائية تقصيرًا فقط، بل تواطؤًا ضمنيًا في تزييف الواقع، وترك الخطاب الرسمي يسير بلا محاسبة، ولو حتى على مستوى التحقق من صحة المعلومة.

ماذا يحدث في الجوار؟

في المقابل، نرى أمثلة في دول عربية تمر بصراعات مشابهة، نجحت في إنتاج صحافة استقصائية مؤثرة. على سبيل المثال:

في الأردن، قدّمت شبكة أريج (الصحفيون العرب الاستقصائيون) عشرات التحقيقات حول الفساد في الصحة، التهريب، وغياب العدالة الجنائية.

🔗 www.arij.net

في تونس، نشرت منصة إنكفاضة تحقيقات مهمة مثل ملف "بيع الجنسية مقابل الاستثمار"، بالتعاون مع OCCRP.

🔗 inkyfada.com

في المغرب، أثارت تقارير الصحفي عمر الراضي نقاشًا وطنيًا حول تلاعب النخب بالثروات العقارية، رغم المضايقات التي تعرض لها.

🔗 Amnesty Report

لماذا لا يحدث ذلك في ليبيا؟

الجواب ببساطة: لأن هناك من يفضّل أن يبقى الإعلام عاجزًا، يتحدث في العموميات، دون أن يسمي الأسماء، أو يكشف الأرقام، أو يفتح الملفات. في الوقت الذي تُغرق فيه بعض الجهات الإعلامية السوق الليبي بورش تدريب على “بناء السردية”، و“صناعة المحتوى”، يتم تجاهل أبسط أدوات الصحافة المهنية: التحقيق، التوثيق، المساءلة.

هل هناك أمل؟

الأمل موجود، لكن بشروط واضحة:

  • إطلاق برامج تدريب حقيقية، عملية، ومستمرة في مجال الصحافة الاستقصائية.
  • تأسيس منصات محلية مستقلة، قادرة على نشر التحقيقات دون رقابة سياسية أو تمويل مشروط.
  • خلق شبكات حماية قانونية وصحفية تُمكن الصحفي من العمل بحرية ومسؤولية.
  • إشراك الصحفيين الليبيين في شبكات استقصائية دولية مثل OCCRP وARIJ للحصول على دعم فني وقانوني.


الصحافة التي لا تُحرج أحدًا، لا تُفيد أحدًا.

والسكوت عن ملفات مثل فساد الصحة أو الرياضة – وهي ملفات لا علاقة لها بالسياسة – يعني أن الخلل بنيوي، مقصود، وربما ممنهج.

وإذا لم نبدأ اليوم في بناء صحافة استقصائية حقيقية في ليبيا، فمن سيحاسب من؟


أحدث أقدم

 

نموذج الاتصال