في قاعة فخمة بمدينة إشبيلية الإسبانية، وقف السيد محمد المنفي، رئيس المجلس الرئاسي الليبي، ليلقي كلمة ليبيا في المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية. تحدث بلغة مُنمّقة عن "الاستقرار"، و"الإصلاح"، و"الاستثمار"، و"الشفافية". لكن ما لم يقله أهم بكثير مما قاله. فالسؤال الصريح هو: عن أي دولة تتحدث يا فخامة الرئيس؟ وأين هي هذه الدولة التي لا نراها على أرض الواقع؟
لنبدأ من الجذر: أنت لم تأتِ عبر انتخابات ديمقراطية. لم ينتخبك الشعب الليبي، ولم تفز بثقة الناخبين. بل تم تعيينك رئيسًا للمجلس الرئاسي عبر تسوية سياسية جرت في جنيف عام 2021، ضمن مخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي، وبآلية لا تخلو من الشبهات والاتهامات باستخدام المال السياسي. فكيف تطالب العالم بدعم "شرعية ليبية"، بينما لم تنل يومًا شرعية صندوق الاقتراع؟
تحدثت عن "الموارد الهائلة" و"الصندوق السيادي الواعد"، بينما ملايين الليبيين يعانون من تدهور معيشي كارثي، وانقطاع متكرر للكهرباء، وانهيار منظومات الصحة والتعليم، وانعدام فرص العمل. أما الفساد، فهو ممنهج ويضرب جذور الدولة من أعلى مستوياتها، بما في ذلك المؤسسات التي تمثّلها أنت.
وإن كانت لديك نية للإصلاح والشفافية، فلماذا لم تبدأ بنفسك؟ أين تقارير إنفاق المجلس الرئاسي؟ لماذا لم تفتح ملفات الفساد؟ لماذا لم تعلن مواقف واضحة من تقارير ديوان المحاسبة التي تكشف تجاوزات بالمليارات؟ هل هي مجرد أوراق تُقرأ ثم تُهمل، بينما تستمر شبكات النفوذ في النهب بلا رقيب؟
فخامة الرئيس، لقد ذكرت في خطابك كارثة درنة، لكنك تجاهلت أن الدولة التي تمثلها كانت غائبة بالكامل في اللحظة التي كان يجب أن تحضر. لم نرَ أي محاسبة أو تحقيق رسمي نزيه. كان صمت السلطات أقسى من الإعصار ذاته.
ولا يمكننا تجاهل أمر آخر لا يقل خطورة: حتى أبسط مقومات الديمقراطية غائبة عن أدائك الرسمي. صفحتك على فيسبوك، وهي النافذة الأساسية للتواصل مع الشعب، تُغلق فيها خاصية التعليق أمام المواطنين. هل تخشى النقد؟ هل تعتبر الليبيين مجرد جمهور يجب أن يستمع فقط، لا أن يتكلم؟ كيف تتحدث عن "الشراكة المجتمعية" وأنت تمنع المواطن من أبسط حقوقه في التعبير داخل فضاء رقمي؟
منذ تسلّمك المنصب، لم تُنظّم انتخابات، ولم تُوحَّد المؤسسات، ولم تُفكك المليشيات، ولم تُعالج الفوضى المالية. كل ما حصل هو تمديد أمر واقع، في ظل صفقات وتقاسم نفوذ بين أطراف سلطة تعيش في عزلة عن الشارع الليبي.
فخامة الرئيس، ليبيا لا تحتاج إلى خطابات في إشبيلية، بل إلى شجاعة سياسية تبدأ من الداخل. الشرعية الحقيقية لا تأتي من المؤتمرات، بل من صندوق الانتخاب، ومن مواجهة الفساد، ومن احترام المواطن.
وحتى ذلك الحين، فإن خطابك في إشبيلية سيبقى مجرد فقرة في أرشيف المؤتمرات... لا في ذاكرة شعب يرزح تحت فوضى بلا دولة.
Tags
تدوين