Pane, amore e... حين يبتسم البحر للسينما



لطالما كنت مفتونًا بسحر السينما الإيطالية، وكأنها كانت دائمًا تهمس لي من وراء الشاشة بقصصها المصنوعة من أحلام بسيطة وهموم عظيمة. تربيتُ على أعمال برناردو برتلوتشي، الذي جعل من الصورة قصيدة متمردة، وتأثرتُ بسينما فيديريكو فيليني، حيث السريالية تتراقص فوق واقعٍ هش، وحيث الحدود بين الحقيقة والخيال تكاد تتلاشى تحت إيقاع موسيقى نينو روتا.

لهذا، كلما صادفت فيلمًا إيطاليًا كلاسيكيًا، شعرت أنني ألتقي مجددًا بشيء يشبه الحنين.

هكذا عثرت على "Pane, amore e..."، الذي أُنتج عام 1955، ويُعد من أوائل الأفلام الإيطالية المصورة بالألوان. يحمل الفيلم عنوانًا شاعريًا يعني بالعربية "خبز، حب، و..."، وهي عبارة مفتوحة تنبض بإيحاءات الحياة البسيطة والمفعمة بالأمل. أما في النسخة العالمية، فقد عُرف الفيلم أيضًا باسم آخر أكثر إثارة هو "Scandal in Sorrento" أو "فضيحة في سورينتو".

تدور أحداث الفيلم في خليج سورينتو، المدينة الساحلية الدافئة على مشارف نابولي، حيث البحر الأزرق يحتضن الحكايات البسيطة، والقلوب تخفق تحت شمس لا تغيب.

لم يكن سحر سورينتو يومًا حكرًا على السينما فقط، بل ألهم أيضًا كبار المطربين: فلطالما خلد الفنانون هذه المدينة في أغنياتهم، وأشهرها أغنية "Caruso" التي كتبها وغناها لوتشو دالا، مستلهمًا من لحظات المغني الأسطوري إنريكو كاروزو الأخيرة في هذا الخليج الساحر. هذه الأغنية التي تناقلتها لاحقًا أعذب الأصوات مثل لارا فابيان وآندريا بوتشيلي، جسدت حنين الإنسان إلى الحب والحياة والمكان.

في هذا العمل، تظهر صوفيا لورين في عنفوان شبابها، ترقص المامبو بإيقاع مفعم بالحرية والبهجة، تملأ الشاشة بحضورها الذي لا يمكن تجاهله، جمال طبيعي لا يطلب التصنع، وطاقة داخلية تشع في كل حركة وكل نظرة.

ويقف أمامها الرجل الذي يشبه بملامحه الكاريزماتية تشارلي شابلن، الممثل الكبير والمخرج الأسطوري فيتوريو دي سيكا، الذي لم يكن مجرد نجم، بل أحد أبرز وجوه السينما الواقعية الإيطالية (النيورياليزم).

دي سيكا، المعروف عالميًا بإخراجه لفيلم "سارق الدراجة" وغيره من روائع الواقعية، كان من رموز الموجة التي قادها عمالقة مثل روبرتو روسيليني، فيديريكو فيليني، وميكيلانجلو أنطونيوني. هؤلاء المبدعون أعادوا تعريف السينما بعد الحرب العالمية الثانية، وجعلوا الكاميرا وسيلة لالتقاط هموم الناس اليومية بلغة صادقة وبسيطة.

غير أن فيتوريو دي سيكا، في هذا الفيلم، يكشف عن وجه آخر له: ممثل كوميدي خفيف الظل، قادر على رسم الابتسامة كما رسم الأحزان في أعماله السابقة.

"Pane, amore e..." بعيد عن قتامة النيورياليزم؛ إنه فيلم يحتفي بالحياة، بالحب، وباللحظات الصغيرة التي تمنح الأيام معناها.

النيورياليزم هو حركة سينمائية إيطالية نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، تركز على تصوير الحياة اليومية للمجتمع الفقير باستخدام أسلوب واقعي وصادق، مع الاعتماد على ممثلين غير محترفين وأماكن حقيقية بدلاً من الاستوديوهات.

ما جذبني أكثر إلى هذا الفيلم، لم يكن فقط الأداء الرائع أو جمال المناظر الطبيعية، بل كانت تلك الروح الإيطالية الأصيلة: خفة الدم، الدفء الإنساني، والاحتفاء بالحياة رغم بساطتها، بل ربما بفضل بساطتها.

كل مشهد كان قصيدة صغيرة مفعمة بالضوء: رقصة على وقع المامبو، نظرة خجولة بين قلبين، أو حديث عابر على عتبات منازل سورينتو المطلّة على بحر لا نهاية له.

مشاهدة "Pane, amore e..." كانت بمثابة رحلة زمنية إلى عالم أكثر دفئًا وصدقًا، عالم يشبه الحلم الذي كدنا ننساه، ولكنه يعود ليطرق باب القلب من جديد.


مشهد من الفيلم 👇

أحدث أقدم

 

نموذج الاتصال