العيش بكرامة: مسؤولية المجتمع والدولة تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة


في الكثير من المجتمعات العربية، وعلى رأسها المجتمع الليبي، تتسم العلاقات العائلية والروابط الاجتماعية بطابع عاطفي عميق. تُبنى الأسر على المودة، وتُحيط الأبناء بالرعاية والحنان، وخاصة إذا ما واجه أحدهم ظرفًا صحيًا أو إعاقة. لكن هذه العاطفة، رغم أهميتها، كثيرًا ما تصطدم بواقعٍ قاسٍ: ضعف الدعم الحكومي، انعدام الخدمات المجتمعية، وغياب السياسات المؤسسية التي من شأنها تخفيف العبء عن العائلات.

حين يغيب النظام العام الذي يُنصف الأشخاص ذوي الإعاقة ويوفّر لهم حقوقهم في الاستقلال والعيش الكريم، تتحمّل الأسرة هذا العبء وحدها. ومع مرور الوقت، وتحت وطأة الضغوط اليومية، تبدأ العاطفة في التآكل، ليس بسبب غياب المحبة، بل بفعل الإعياء النفسي والاجتماعي والاقتصادي. وبدل أن تظل الإعاقة شأنًا مجتمعيًا تُسهم فيه الدولة ومؤسساتها، تتحوّل إلى همّ عائلي خاص، يُثقل القلوب ويقلب الموازين.

في هذا السياق، يُعامل كثير من الأشخاص ذوي الإعاقة وكأن وجودهم لا يُحدث فرقًا. يُنظر إليهم باعتبارهم عاجزين عن الإنتاج، وتُقيّد خياراتهم في الحياة، وتُطرح عليهم الأسئلة المحبطة:

بالهجة الليبية 👇

"اعلاش تبي تمشي غادي؟"،

"اعلاش تبي كاروسه وين تبي تمشي؟ كاروسه متمشيش في شارع كويس"،

"تقدر تخدم؟ ارتاح خيرلك"

عبارات مثل هذه لا تعكس بالضرورة قسوة مقصودة، بل كثيرًا ما تكون نتيجة نقص الوعي، وضعف التثقيف، وغياب الدعم المؤسسي الذي يرسّخ صورًا نمطية مغلوطة عن الأشخاص ذوي الإعاقة. ومع غياب سياسات جادة تُعزز ثقافة الشمول والتمكين، تتكرر هذه العبارات يوميًا دون أن يشعر أصحابها بما تحمله من إحباط وتهميش.

وما يعمق هذا الواقع المؤلم، أن الدولة الليبية، رغم توقيعها على الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، لم تلتزم فعليًا بتنفيذ الكثير من البنود الجوهرية، كضمان التنقل، والاستقلال، ودعم الحياة المجتمعية.

فالمادة 19 من الاتفاقية تنص صراحة على ضرورة توفير خيارات متعددة للأشخاص ذوي الإعاقة في نمط حياتهم، منها:

العيش مع الأسرة مع تقديم الدعم المناسب،

الإقامة في مراكز رعاية تحترم الكرامة الإنسانية،

العيش المستقل بمساعدة شخصية تمكّنهم من اتخاذ قراراتهم.

كما تؤكد المادة:

"لجميع الأشخاص ذوي الإعاقة الحق في العيش في المجتمع، مع توافر خيارات مساوية للآخرين، ويجب على الدول اتخاذ التدابير الفعالة لتيسير التمتع الكامل بهذا الحق."

إن أي مجتمع، مهما بلغت عاطفيته، لا يستطيع وحده أن يحمل العبء الكامل دون سند مؤسسي. العاطفة وحدها لا تبني حياة مستقلة، ولا تُغني عن السياسات، ولا تُنقذ من التهميش. ولا يمكن للعائلة أن تظل وحدها الجدار الأخير في ظل غياب الإرادة السياسية.

ولذلك، فإن الوقت قد حان لتتحرك الدولة والمجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية والتعليمية، من أجل بناء بيئة عادلة وشاملة، تُمكّن الأشخاص ذوي الإعاقة من العيش بكرامة، وتُحرر أسرهم من عبء الإقصاء الذي تُسهم فيه المنظومة بدلًا من أن تحاربه.


أحدث أقدم

 

نموذج الاتصال