الحكومة الليبية: تقصير صارخ في حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة رغم الوفرة المالية
مع اقتراب اليوم العالمي لذوي الإعاقة، يثار تساؤل جوهري: لماذا لا تتحقق حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في ليبيا رغم ما تتمتع به البلاد من موارد مالية هائلة؟ لماذا تظل هذه الفئة المحرومة من أبسط حقوقها الإنسانية في ظل وفرة النفط والغاز التي تضمن عائدات مالية ضخمة؟ إنه سؤال يحتاج إلى إجابة من الحكومة الليبية، التي للأسف، تواصل التقاعس في توفير الدعم الكافي للمواطنين ذوي الإعاقة.
ليبيا: دولة غنية وموارد ضخمة، ولكن…
من المعروف أن ليبيا تعد من الدول الغنية بمواردها المالية، ولا سيما من خلال الثروات النفطية التي تجعلها واحدة من أكبر منتجي النفط في المنطقة. كما أن البلاد تتمتع باحتياطات كبيرة من الغاز الطبيعي، مما يتيح لها ميزانية ضخمة تستطيع من خلالها تحسين مستوى الحياة للمواطنين بشكل عام، وللأشخاص ذوي الإعاقة بشكل خاص. لكن، للأسف، على الرغم من هذه الوفرة، تبقى حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في ليبيا مهملة تمامًا، مما يجعل من الصعب فهم هذا التقاعس الحكومي في ضوء الموارد الضخمة المتاحة.
صادق مجلس النواب الليبي بالإجماع على اعتماد مخصص إضافي للميزانية العامة للدولة لعام 2024، بقيمة 88 مليار دينار (18.3 مليار دولار) لترتفع الميزانية العامة الموحدة إلى 180 مليار دينار (37 مليار دولار)، وبذلك تكون أول ميزانية بهذا الحجم في تاريخ ليبيا.
تعريف الأشخاص ذوي الإعاقة في الاتفاقية
وفقًا للاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، يتم تعريف الأشخاص ذوي الإعاقة بأنهم أولئك الذين يعانون من عاهات بدنية أو عقلية أو فكرية أو حسية طويلة الأجل، والتي قد تعيق مشاركتهم الفعالة في المجتمع عندما تتفاعل مع مختلف الحواجز. وهذا يشمل أشخاصًا يعانون من إعاقات جسدية مثل الشلل أو البتر، وكذلك إعاقات ذهنية وفكرية تؤثر على قدراتهم على التعلم والتفاعل الاجتماعي، بالإضافة إلى إعاقات حسية مثل ضعف السمع أو البصر.
في ضوء هذه التعريفات، كانت ليبيا قد انضمت إلى قائمة الدول المُصادقة على الاتفاقية في 13 فبراير 2018، بعد صدور قانون رقم 2 لسنة 2013 من المؤتمر الوطني، وذلك بفضل جهود منظمات المجتمع المدني التي استمرت لخمس سنوات متواصلة في الضغط والمطالبة بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. ولكن، رغم هذه المصادقة القانونية والالتزامات الدولية، تبقى حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في ليبيا غير مُعترف بها أو مُنفذة بشكل فعلي.
هل يكفي راتب 650 دينارًا في ظل غياب التضامن الاجتماعي؟
في ليبيا، حيث يفتخر المسؤولون بالمقدرات المالية التي تتمتع بها الدولة، يعاني الأشخاص ذوو الإعاقة من تأخر صرف رواتبهم الشهرية. في 22 نوفمبر 2024، لم تُصرف رواتب شهر أكتوبر لمعظم الأشخاص ذوي الإعاقة، مما يزيد من صعوبة حياتهم اليومية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يعقل أن يكون راتب 650 دينارًا كافيًا لتغطية احتياجات شخص ذي إعاقة؟ هذا المبلغ لا يكفي لتغطية الأدوية الضرورية، أو العناية الطبية، أو حتى الاحتياجات الأساسية الأخرى مثل الطعام والمواصلات.
المفترض أن تكون الحكومة الليبية قد اتخذت خطوات جادة لتوفير دخل مناسب للأشخاص ذوي الإعاقة، خاصة في ضوء الموارد المالية الهائلة التي تمتلكها الدولة. ولكن، للأسف، تظل الحكومة الليبية غير قادرة على تلبية أبسط احتياجات هذه الفئة.
احتفالات شكلية لا تعكس الواقع
بينما تقام احتفالات سنوية بمناسبة اليوم العالمي لذوي الإعاقة في ليبيا، بمشاركة وزارة الشؤون الاجتماعية والهيئة العامة لصندوق التضامن الاجتماعي، تبقى هذه الاحتفالات في معظمها مجرد فعاليات شكلية لا تقدم حلولًا حقيقية للمشاكل التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقة. في الدول المتحضرة، تشكل هذه المناسبات فرصة لتقديم الدعم الفعلي لهذه الفئات من خلال التشريعات الجديدة أو الإجراءات التي تضمن لهم حياة كريمة. لكن في ليبيا، لا تزال المشاكل الأساسية قائمة دون حلول واضحة.
مقارنة مع الدول المتحضرة
لنأخذ مثالاً على الدول التي استطاعت الاستفادة من مواردها المالية لتحسين حياة الأشخاص ذوي الإعاقة. في النرويج، على سبيل المثال، تُعد حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة جزءًا لا يتجزأ من السياسات الحكومية. تقدم الحكومة دعمًا ماليًا شهريًا يتناسب مع احتياجاتهم الأساسية، بالإضافة إلى ضمان وصولهم إلى التعليم، الرعاية الصحية، وفرص العمل. كما تم توفير بنية تحتية متكاملة تتناسب مع احتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة، بما في ذلك وسائل النقل العام والمباني العامة التي تم تكييفها لتلبية احتياجاتهم.
وفي السويد، تُعتبر حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة من الأولويات الوطنية، حيث تقدم الدولة دعمًا ماليًا ومزايا اجتماعية واسعة لهذه الفئة. إضافة إلى ذلك، يوجد التزام حكومي بتوفير بيئة تعليمية وعملية مهيأة لتكون شاملة للأشخاص ذوي الإعاقة. النرويج والسويد والدول الأخرى التي تبنت سياسات مماثلة تُظهر كيف يمكن للدول التي تتمتع بموارد مالية ضخمة أن تساهم في تحسين حياة الأشخاص ذوي الإعاقة.
ألمانيا وكندا مثال آخر على دول تقدم برامج متكاملة تشمل الرعاية الصحية، التعليم، والدعم المالي للأشخاص ذوي الإعاقة. يتم توفير فرص عمل لهم وفقًا لاحتياجاتهم الخاصة، مع ضمان بنية تحتية شاملة تتيح لهم التفاعل مع المجتمع بحرية. كما تضمن هذه الدول فرصًا متساوية في جميع المجالات الحياتية.
نجد أن هناك فارقًا كبيرًا في السياسات بين ليبيا وبعض الدول العربية. على سبيل المثال، في البحرين، توجد استراتيجية وطنية تهدف إلى حماية وتأهيل وتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة، تشمل تقديم الدعم المالي في شكل إعانات موجهة مباشرة للأفراد ذوي الإعاقة. كما تركز هذه الاستراتيجية على تعزيز حقوقهم وتحقيق شمولهم في كافة جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية
وفي الأردن، تم إطلاق "الاستراتيجية الوطنية للأشخاص ذوي الإعاقة" التي تتضمن خطة شاملة لتحسين مستوى معيشة هؤلاء الأشخاص، بما في ذلك الدعم المالي وتعزيز فرص العمل والتعليم المدمجكما أن الإمارات العربية المتحدة تخصص العديد من البرامج لتقديم الدعم المالي والمعنوي للأشخاص ذوي الإعاقة، وتشمل تلك البرامج منحًا مالية وبرامج تدريبية لتحسين مهاراتهم ودمجهم في سوق العمل
لماذا تقاعست الحكومة الليبية رغم الموارد المالية؟
ما الذي يمنع الحكومة الليبية من اتباع نفس المسار الذي اتبعته الدول المتحضرة؟ لماذا تظل الحكومة الليبية عاجزة عن تقديم الدعم الكافي للأشخاص ذوي الإعاقة في ظل توفر العائدات النفطية الهائلة؟ إذا كانت الحكومات في الدول الغنية مثل النرويج والسويد وألمانيا قد استطاعت تطبيق سياسات شاملة تحترم حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، فكيف يمكن لليبيا، التي تملك موارد مالية ضخمة، أن تظل متقاعسة عن القيام بالحد الأدنى من هذه الالتزامات؟
إنه من غير المقبول أن تبقى الاحتفالات والشعارات هي السائدة في ليبيا، بينما يواجه الأشخاص ذوو الإعاقة تحديات يومية كبيرة في ظل غياب الدعم الحكومي الفعلي. هناك حاجة ماسة إلى تغيير جذري في طريقة تعامل الحكومة مع هذه الفئة. على الحكومة الليبية أن تتبنى سياسات تضمن لهم حياة كريمة ومستقلة، من خلال توفير راتب شهري يتناسب مع تكاليف الحياة، وضمان وصولهم إلى الرعاية الصحية والتعليم، وتوفير بنية تحتية شاملة تتناسب مع احتياجاتهم.
المطلوب من الحكومة الليبية
تتمتع ليبيا بالموارد المالية التي تمكنها من تقديم الدعم الكافي للأشخاص ذوي الإعاقة. المطلوب الآن هو التوقف عن الإحتفالات الشكلية، والبدء في اتخاذ خطوات حقيقية لتحسين حياة هؤلاء المواطنين. يجب أن تبدأ الحكومة الليبية بتوفير راتب شهري يتماشى مع تكاليف الحياة، وضمان توفر الرعاية الصحية، والتعليم، والإمكانية للوصول إلى الأماكن العامة والتفاعل الاجتماعي بشكل طبيعي.
لن يكون هناك احتفال حقيقي بيوم ذوي الإعاقة إلا عندما ترى هذه الفئة حقوقها تتحقق على أرض الواقع، بدلاً من أن تظل مجرد شعارات تردد في المناسبات الرسمية.