في خضم التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمر بها ليبيا، يجد المواطن نفسه أمام مفارقة مؤلمة يصعب تجاهلها: واقع تتبدل فيه القيم، وتُختزل فيه مفاهيم العدالة والنزاهة، ليصبح الفساد سلوكًا مألوفًا، بل ومكافأً عليه، بينما يُعاقب أصحاب الكفاءة والنزاهة بالتهميش والإقصاء.
لم يعد السؤال "كيف وصلنا إلى هنا؟" ذا جدوى، لأن الإجابة باتت واضحة أمام الجميع. نحن أمام مشهد تتداخل فيه مظاهر سوء الإدارة، وغياب المساءلة، واستشراء المحسوبية، حيث تُدار مؤسسات الدولة بمنطق لا يمت للدولة بصلة، بل أقرب إلى منطق الغنيمة وتقاسم النفوذ.
المواطن العادي، الذي يتقاضى مرتبًا بالكاد يكفي حاجاته الأساسية، يُطلب منه "شد الحزام" تحت ذريعة "الظروف الصعبة"، في الوقت الذي تُمنح فيه امتيازات ضخمة لمسؤولين ورواتب خيالية لا تعكس مستوى الأداء أو المسؤولية. هذا التفاوت الصارخ لا يشير فقط إلى خلل إداري، بل إلى انحراف عميق في أولويات الدولة وأخلاقيات الحوكمة.
أما على صعيد الاستثمار والتنمية، فالحديث يطول. الجهات المفترض أن تنهض بالاقتصاد وتستقطب رؤوس الأموال أصبحت — وفقًا لواقع الحال — محاصرة بالشللية ومناخ من عدم الاستقرار واللاشفافية، الأمر الذي أفرغها من مضمونها وجعلها غير قادرة على تأدية دورها التنموي.
هذا الواقع المؤلم يولّد شعورًا عامًا باليأس وفقدان الثقة. فحين يصبح النجاح خطرًا، والصدق تهمة، وتُكافَأ الممارسات المشبوهة بدلًا من مكافأة الكفاءة، لا يعود مستغربًا أن تهاجر العقول، وأن يتراجع الأداء، وأن تفقد الدولة قدرتها على النهوض من جديد.
لكن رغم كل ذلك، يبقى الأمل ممكنًا. فصوت المواطن الذي يرفض الظلم، ويدعو إلى العدالة والمحاسبة، هو بداية الطريق نحو التغيير الحقيقي. نعم، قد يشعر البعض بأن المطالبة بحياة كريمة أصبحت وكأنها تهمة، لكن التاريخ يُثبت دائمًا أن الشعوب التي تصرّ على المطالبة بحقوقها، حتى في أصعب الظروف، هي التي تصنع الفرق في نهاية المطاف.
لا نملك إلا أن نذكّر بأن المسؤولية مشتركة، وأن بناء دولة عادلة لا يقوم على تبرير الفساد أو السكوت عليه، بل على دعم الكفاءات، وتمكين الشرفاء، وتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، بما يضمن مستقبلًا أفضل لكل الليبيين.