ما بين الغارة والناتو… لم تعد ليبيا كما عرفتها



لم تكن كل الذكريات سعيدة، فبعض الليالي تبقى محفورة في الذاكرة مهما مرّت السنوات. إحدى تلك الليالي كانت في الرابع عشر من أبريل عام 1986، عندما عشت تجربة مرعبة لن أنساها ما حييت. كنت حينها في الخامسة عشرة من عمري، أقيم في مركز لإعادة التأهيل، نحاول أن نعيش حياة بسيطة داخل جدرانه، بعيدًا عن ضجيج العالم الخارجي. لكن تلك الليلة تحديدًا، لم يكن فيها من الهدوء شيء.

بينما كنا نستعد للنوم، بدأت الأرض تهتز تحت أقدامنا، واهتز معها الأمان القليل الذي كنا نملكه. طائرات حربية أمريكية حلّقت في السماء، وأطلقت صواريخها ضمن عملية سُمّيت عملية الدورادو كانيون (Operation El Dorado Canyon)، في هجوم مشترك نفذته القوات الجوية والبحرية والمارينز. الذعر انتشر بيننا، كنا نسمع أصوات الانفجارات تقترب، والهواء يثقل بأنفاس الخوف. بعد منتصف الليل، أُخرجنا من المركز حمايةً لنا، فقد كان هناك هدف عسكري قريب، كما قيل لنا لاحقًا. كانت تلك أول مرة أرى فيها الحرب وجهاً لوجه، وأشعر ببرودة الخوف تتسلل إلى صدري.

مرت السنوات، وكبرتُ، لكن الحرب عادت. هذه المرة لم تكن الغارة أمريكية منفردة، بل كانت الضربة أشمل وأوسع: حلف الناتو يقصف ليبيا في عام 2011. شعرت وقتها وكأن الزمن يعيد نفسه، لكن الوجع تغيّر، كأن الذاكرة تمزّقت ثم أُعيدت خياطتها بخيوط أكثر خشونة.

أعترف أنني أنتمي إلى جيل عاش غارة الأمس، وضربات الناتو اليوم، جيل اختبر تحوّلات الوطن عبر صوت القنابل، لا عبر صناديق الانتخاب أو صفحات التاريخ. رأينا كيف تغيّرت ملامح البلاد من هيبة تُفرض بصمت إلى شتات يتنازع تعريفه.

لم أعرف "هيبة ليبيا" كما يحكي عنها البعض من بعيد، لكنني شعرت بأنها لم تكن كما هي بعد 2011. قبلها، كانت هيبة تفرض نفسها رغم كل شيء — مزيج غريب من الخوف والانضباط، من الهيبة والسكوت. وبعدها، صارت تلك الهيبة ضائعة، يُبحث عنها في خطابات ممزقة، وفي وجوه متعبة، وفي خريطة تشكو من التمزق.

ولأن الذاكرة لا تخون، أقولها بمرارة: لم تعد ليبيا، على الأقل، تلك التي كنت أعرفها.


أحدث أقدم

 

نموذج الاتصال